الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      المسألة الرابعة : اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان ; لأن الله - جل وعلا - قال فيها في معرض الامتنان العام على خلقه عاطفا على الأكل : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، وهذا الخطاب خطاب الذكور كما هو معروف . ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] ، وقال القرطبي في تفسيره : امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير . وقال صاحب الإنصاف : يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه ، وهو الصحيح من المذهب . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلا ، ولا أعلم للتحريم مستندا إلا عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء ، كالعكس ! قال البخاري في صحيحه : " باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال " : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " . فهذا الحديث نص صريح في أن تشبه الرجال بالنساء حرام ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن أحدا إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة . ولا شك أن الرجل إذ لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء . فإن قيل : يجب تقديم الآية على هذا الحديث ، وما جرى مجراه من الأحاديث من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن الآية نص متواتر ، والحديث المذكور خبر آحاد ، والمتواتر مقدم على الآحاد .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 350 ] الثاني : أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء ، والآية خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر ، والخاص مقدم على العام ؟ فالجواب : أنا لم نر من تعرض لهذا . والذي يظهر لنا - والله تعالى أعلم - : أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندا وأخص ، في محل النزاع ; فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها ; وقوة الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أرجح من قوة السند ; لأن قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، يحتمل معناه احتمالا قويا : أن وجه الامتنان به أن نساءهم يتجملن لهم به ، فيكون تلذذهم وتمتعهم بذلك الجمال والزينة الناشئ عن تلك الحلية من نعم الله عليهم ، وإسناد اللباس إليهم لنفعهم به ، وتلذذهم بلبس أزواجهم له ، بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء ، ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلا متشبه بهن ; فالحديث يتناوله بلا شك . وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور ، واستدل به على أنه يحرم على الرجال لبس الثوب المكلل باللؤلؤ ، وهو واضح ، لورود علامات التحريم وهو لعن من فعل ذلك : وأما قول الشافعي : ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ ، إلا لأنه من زي النساء ، فليس مخالفا لذلك ; لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية