الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) فسر أهل اللغة القهر بالغلبة والأخذ من فوق وبالإذلال ، وقال الراغب : القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما . وقد جاءت هذه الآية بعد إثبات كمال القدرة لله تعالى فيما قبلها تثبت له جل وعلا كمال السلطان والتسخير لجميع عباده والاستعلاء عليهم مع كمال الحكمة والعلم المحيط بخفايا الأمور ، ليرشدنا إلى أن من اتخذ منهم وليا من دونه فقد ضل ضلالا بعيدا لإشراكه ومقارنته بين الرب القاهر العلي الكبير الحكيم الخبير ، وبين العبد المربوب المقهور المذلل المسخر الذي لا حول له ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . فإذا كان هكذا شأن الرب وهذه صفاته فلا ينبغي للمؤمن به أن يتخذ وليا من عباده المقهورين تحت سلطان عزته ، المذللين لسننه التي اقتضتها حكمته وعلمه بتدبير الأمر في خلقه ، لأن أفضل المخلوقات وأكملهم مساوون لغيرهم في العبودية لله والذل له ، وكونهم لا حول لهم ولا قوة بأنفسهم ، ولم يجعل من خصائص أحد منهم أن يشاركه في التصرف في خلقه ولا في كونه يدعى معه ولا وحده لكشف ضر ولا جلب نفع ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) ( 72 : 18 ) ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) ( 6 : 41 ) ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) ( 17 : 56 ) إلخ .

                          وقد فسر ابن جرير الآية بقوله : والله الغالب عباده المذل لهم العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه ، وهو الحكيم في علوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وسائر تدبيره ، الخبير بمصالح الأشياء ومضارها ، الذي لا تخفى عليه عواقب الأمور وبواديها ، ولا يقع في تدبيره خلل ، ولا يدخل حكمته دخل اهـ .

                          وذهبت المعتزلة والأشاعرة إلى أن قوله تعالى : ( فوق عباده ) تصوير لقهره وعلوه بالغلبة والقهر . صرح بذلك الزمخشري وتبعه بعض الأشاعرة ، كالبيضاوي بنقل عبارته بنصها ، وبعضهم ، كالرازي ، بنقلها وإطالة الدلائل النظرية بإثبات مضمونها ، ومنع إرادة فوقية الذات وإطلاق صفة العلو على الله ، إذ جعل ذلك قولا بتحيز الباري في جهة معينة ، وأطال في سرد الدلائل النظرية على استحالة ذلك ، ولفظ الآية لا يأبى ما فسره [ ص: 282 ] به الزمخشري وأمثاله ، لأن له نظيرا ذكروه في تفسيرها وهو قوله تعالى حكاية عن فرعون ( وإنا فوقهم قاهرون 7 : 127 ) وبديهي أنه يعني فوقية المكانة المعنوية لا المكان ، ولو اكتفوا بهذا لكان حسنا لأنه في معنى ما نقل عن مفسري السلف كابن جرير ، ولكن منهم من شنع على السلف الصالحين وسماهم حشوية لعدم تأويلهم الآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بإثبات صفة العلو المطلق لله تعالى ، فسلف الأمة يمرون هذه الآيات بغير تأويل ويقولون : إن الله مستو على عرشه فوق السماوات وفوق العالم كله لا فوق كل شخص وحده ، وهو بهذا بائن من خلقه ، وإنه مع ذلك ليس كمثله شيء ، فليس بمحاود ولا محصور ولا متحيز ، فهذه اللوازم التي يبني عليها الجهمية وتلاميذهم تأويل صفة العلو مبنية كلها على قياس الخالق على المخلوق ، ومن المعلوم أن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات حتى العلم والقدرة والإرادة فإنما وضع في أصل اللغة لصفات البشر وهي مباينة لصفات الله تعالى ، فلماذا يخصون بعضها بالتأويل دون بعض ؟ فالحق الذي مضى عليه سلف الأمة أن الله تعالى وصف بكل ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وأن جميع تلك الصفات تطلق عليه مع تنزيهه عن مشابهة من تطلق عليهم ألفاظها من الخلق ، فعلم الله وقدرته وكلامه وعلوه وسائر صفاته شئون تليق به لا تشبه علم المخلوقين وقدرتهم وكلامهم وعلو بعضهم على بعض . وقد انتهى سخف بعض المتكلمين في التأويل إلى جعل صفات الباري تعالى سلبية ، وقد تقدم شيء من هذا البحث ، وسنعود إليه إن شاء الله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية