الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما ما يترتب على ذلك من الاهتداء إلى وجه الحجة والاستدلال ، فقوله عز وجل : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا ) إلخ . قال الراغب : أصل الجن ستر الشيء عن الحاسة ، يقال : جنه الليل ، وأجنه ، وأجن عليه . فجنه : ستره ، وأجنه : جعل له ما يجنه ، كقولك : قبرته ، وأقبرته ، وسقيته ، وأسقيته ، وجن عليه كذا ستر عليه . انتهى . ومنه الجن والجنة - بالكسر - والجنة بالضم [ ص: 464 ] وهي الترس يستر به ما يحاول العدو ضربه من الوجه والرأس وغيرها ، والجنة - بالفتح - وهي البستان الذي يستر الشجر أرضه من الشمس . والكوكب والكوكبة واحد الكواكب ، وهي النجوم . والفلكيون يطلقون المؤنث على المجموعة المعينة منها ، والعرب تطلقه على الزهرة ، كما غلب إطلاق النجم معرفا على الثريا ، ولم ينقل إلينا تأنيث النجم ، والعامة تقول نجمة .

                          والمعنى أن الله تعالى لما بدأ يريه ملكوت السماوات والأرض تلك الإراءة التي عللها بما تقدم آنفا ، كان من أول أمره في ذلك أنه لما أظلم عليه الليل ، وستره أو ستر عنه ما حوله من عالم الأرض نظر في ملكوت السماء ، فرأى كوكبا عظيما ممتازا على سائر الكواكب بإشراقه وجذب النظر إليه - يدل على ذلك تنكير الكوكب - وقد روي عن ابن عباس أنه المشترى الذي هو أعظم آلهة بعض عباد الكواكب من قدماء اليونان والروم ، وكان قوم إبراهيم سلفهم وأئمتهم في هذه العبادة ، وعن قتادة أنه الزهرة . فماذا قال لما رآه ؟ ( قال هذا ربي ) أي مولاي ومدبر أمري ، قيل : إنه قال ذلك في ذلك في مقام النظر والاستدلال لنفسه ، وقيل : في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، واعتمد من قال بالأول على ما روي في التفسير المأثور من عبادته - عليه الصلاة والسلام - لهذه الكواكب في صغره اتباعا لقومه ، حتى أراه الله تعالى بعد كمال التمييز حجته على بطلان عبادتها ، والاستدلال بأفولها وتعددها وغير ذلك من صفاتها على توحيد خالقها ، وأن ذلك كله كان قبل النبوة ودعوتها . ومنه قصة طويلة مروية عن محمد بن إسحق فيها أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ولدته أمه في مغارة أخفته فيها خوفا عليه من ملكهم نمرود بن كنعان أن يقتله ، إذ كان أخبره المنجمون بأن سيولد في قريته غلام يفارق دينهم ، ويكسر أصنامهم ، فشرع يذبح كل غلام ولد في الشهر الذي وصف أصحاب النجوم من السنة التي عينوا ، وفيها أن إبراهيم كان يشب في اليوم كما يشب غيره في شهر ، وفي الشهر كما يشب غيره في سنة ، وأنه طلب من أمه بعد خمسة عشر يوما من ولادته أن تخرجه من المغارة ، فأخرجته عشاء ، فنظر وتفكر في خلق السماوات والأرض - وذكر رؤيته للكواكب ، فالقمر ، فالشمس . . . ولاشك في أن هذه القصة موضوعة لهذه المسألة ، وأن ابن إسحاق أخذها عن بعض اليهود الذين كانوا يلقنون المسلمين أمثال هذه القصص ليلبسوا عليهم دينهم ، فتبطل ثقة يهود وغيرهم بهم . وروى نحوه أبو حاتم عن السدي . والسدي المفسر كذاب معروف كما قال علماء الحديث ، واسمه محمد بن مروان . وأما ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس من تفسير " هذا ربي " بالعبادة فلا يصح ، وهو من مراسيل علي بن طلحة مولى بني العباس ، وقد روى عن ابن عباس تفسيرا كثيرا ولم يره ، وقال فيه أحمد بن حنبل : له أشياء منكرات . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب : صدوق يخطئ ، ومعاوية بن أبي صالح الراوي عنه من رجال مسلم ، وقد لينه ابن معين ، وقال أبو حاتم : لا يحتج به ، ولم يرضه البخاري ، ولا ابن القطان ، فكيف [ ص: 465 ] يؤخذ بروايته عن ابن عباس أن إبراهيم خليل الرحمن كان في صغره مشركا ؟ وهذا إذا فرضنا أن السند إليه صحيح ! .

                          ومن العجيب أن ابن جرير اختار هذا القول مع تقريره القول المقابل له على أحسن وجه ، وهو الذي جزم به الجمهور مع أنه كان مناظرا لقومه ، فقال ما قال تمهيدا للإنكار عليهم ، فحكى مقالتهم أولا حكاية استدرجهم بها إلى سماع حجته على بطلانها ، إذ أوهمهم أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم كر عليه بالنقض ، بانيا دليله على قاعدة الحس ونظر العقل ، وقيل : إنه استفهام إنكار أو تهكم واستهزاء حذفت أداته ، أي : أهذا ربي الذي يجب علي أن أعبده ؟ وقيل أراد : هذا ربي بزعمكم ، أو إنكم تقولون هذا ربي ، وذلك مما لا يلتئم مع ما يأتي في الشمس ، ولا يقبله الذوق .

                          أما ابن جرير فاحتج أولا بالرواية ، وقد علمت أنها لا تصلح حجة على دعوى شرك الخليل - عليه الصلاة والسلام - ولو في الصغر على أنها مطلقة - وثانيا بالعبارة التي قالها بعد أفول القمر ، وسترى حسن توجيهها على الوجه الآخر . وأما الجمهور فاحتجوا بحجج كثيرة أطال الإمام الرازي في تعدادها ، وفي أكثر ما أورده نظر ظاهر . وأقوى حجتهم السياق من حيث تشبيه إراءة الله تعالى إياه هذا الملكوت وما يترتب عليه من إبطال ربوبية الكواكب بإراءته ضلال أبيه وقومه في عبادة الأصنام ، ومن إسناد هذه الإراءة إلى الله تعالى الدال على تمييز ما رأى بها على ما كان يرى قبلها ، ومن تعليل الإراءة بما تقدم ، ومن التعقيب على ذلك بمحاجة قومه ، وقوله تعالى إنه آتاه الحجة عليهم .

                          ( فلما أفل قال لا أحب الآفلين ) أي فلما غرب هذا الكوكب واحتجب ، قال : لا أحب من يغيب ويحتجب ، ويحول بينه وبين محبه الأفق أو غيره من الحجب ، وأشار بقوله " الآفلين " إلى أن هذا الكوكب فرد من أفراد جنس كله يغيب ويأفل ، والعاقل السليم الفطرة والذوق لا يختار لنفسه حب شيء يغيب عنه ويوحشه فقد جماله وكماله ، حتى في الحب الذي هو دون حب العبادة ، فإن أحب شيئا من ذلك بجاذب الشهوة دون الاختيار فلا يلبث أن يسلو عنه بنزوح الدار والاحتجاب عن الأبصار ، إلا أن يصير حبه من هوس الخيال ، وفنون الجنون والخبال ، وأما حب العبادة الذي هو أعلى الحب وأكمله - لأنه من مقتضى الفطرة السليمة والعقل الصحيح - فلا يجوز إلا أن يكون للرب الحاضر القريب ، السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يأفل ، ولا ينسى ولا يذهل ، الظاهر في كل شيء بآياته وتجليه ، الباطن في كل شيء بحكمته ولطفه الخفي فيه ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ( 6 : 103 ) ولكن تشاهده البصائر بآثار صفاته في الخلق والتقدير ، وسلطانه في التصرف والتدبير ، وما كان ليخفى علىالخليل الأول ما قاله الخليل الثاني في مقام الإحسان ، [ ص: 466 ] وما ملته إلا عين ملته في الإسلام والإيمان ، وهو " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فكيف يعبد هذه الكواكب التي تأفل وتحجب عن عابديها ، ويخفى حالهم عليها ؟ ! .

                          وقد فسر بعض النظار وعلماء الكلام الأفول بالانتقال من مكان إلى مكان ، وجعلوا هذا هو المنافي للربوبية ؛ لدلالته على الحدوث أو الإمكان ، وهو تفسير الشيء بما قد يباينه ، فإن المحفوظ عن العرب أنها استعملت الأفول في غروب القمرين والنجوم ، وفي استقرار الحمل ، وكذا اللقاح في الرحم ، فعلم أن مرادها من الأول عين مرادها من الثاني ، وهو الغيوب والخفاء . وقد يتحول الشيء وينتقل من مكان إلى آخر وهو ظاهر غير محتجب ، وفسره بعضهم بالتغير ليجعلوه علة الحدوث المنافي للربوبية أيضا ، وهو غلط كسابقه ، فإن الشمس والقمر والنجوم لا تتغير بأفولها ، ومذهب المتأخرين من علماء الفلك - وهو الصحيح - أن أفولها إنما يكون بسبب حركة الأرض لا بحركتها هي ، وأن حركتها على محاورها وحركة السيارات من المغرب إلى المشرق ليس من سبب أفولها المشاهد في شيء ، وفي الكلام تعريض لطيف بجهل قومه في عبادة الكواكب بأنهم يعبدون ما يحتجب عنهم ، ولا يدري شيئا من أمر عبادتهم ، وهو يقرب من قوله لأبيه بعد ذلك : ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) ( 19 : 42 ) ولا يظهر هذا التعريض على قول النظار في تفسير الأفول ; فإن قوم إبراهيم لم يكونوا على شيء من هذه النظريات الكلامية ، بل كانوا يعبدون الأفلاك قائلين بربوبيتها ، وبقدمها مع حركتها ، وما زال الفلاسفة والفلكيون يقولون بقدم الحركة وأزليتها ، وعلماء الكون في هذا العصر يعدون الحركة مبدأ وجود كل شيء . وأنها ملازمة للوجود المطلق من الأزل إلى الأبد .

                          وقد كان الزمخشري من أولئك النظار ، وقد قال بعد ما يأتي في القمر والشمس : ( فإن قلت ) : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال ؟ ( قلت ) : الاحتجاج بالأفول أظهر ؛ لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . انتهى . وقال ابن المنير : إنه من عيون نكته ووجوه حسناته . انتهى . والصواب أن الكلام كان تعريضا خفيا ، لا برهانا نظريا جليا ، وأن وجه منافاة الربوبية فيه هو الخفاء والاحتجاب والتعدد ، وأن البزوغ والظهور لم يجعل فيه مما ينافي الربوبية ، بل بني عليه القول بها ، فإن من صفات الرب أن يكون ظاهرا وإن لم يكن ظهورا كظهور غيره من خلقه كما علم مما تقدم آنفا .

                          ( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي ) أي فلما رأى القمر طالعا من وراء الأفق أول طلوعه قال : هذا ربي - على طريق الحكاية لما كانوا يقولون تمهيدا لإبطاله كما تقدم ، وقد استعملت العرب هذا الحرف في التعبير عن ابتداء طلوع النيرات وأول طلوع الناب . وفي بزغ البيطار والحاجم للجلد ، وهو تشريطه بالمبزغ ; ولذلك قالوا : إن معنى البزغ الشق ، [ ص: 467 ] فالنيرات تشق الظلام بطلوعها ، وجعله بعضهم تشبيها بشق الناب والسن للثة ، وشق البيطار والحجام للجلد . والظاهر أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - رأى الكوكب في ليلة ، ورأى القمر في الليلة التالية لها كما يؤخذ من العطف بالفاء ، وذلك أنه لا فاصل بين ليلة وأخرى إلا النهار ، وهو ليس بمظهر للكواكب والقمر ؛ فكأنه غير فاصل ، ويحتمل أن يكون قد رأى الكوكب والقمر في ليلة واحدة ، وإذا كانت هذه الليلة هي التي رأى الشمس في أول نهارها - وهو المتبادر - وجب أن يكون رأى الكوكب في أول الليل هاويا للغروب ، وبعد أفوله بقليل بزغ القمر ، وأن ذلك كان في وسط الشهر ، وأنه سهر مع بعض قومه الليل كله حتى أفل القمر في آخره ، وكثيرا ما يفعل الناس هذا ، ولا سيما في الليالي البيض ولو لم يكن لهم غرض ديني أو علمي منه ، وقد يتصور وقوع ذلك في بعض الليالي القليلة من السنة كالليلة الخامسة عشرة من شهر رجب من سنتنا هذه ( سنة 1336 هـ ) فإن الشمس تغرب فيها عن أفق مصر الساعة 6 والدقيقة 28 ويطلع القمر بعد غروبها بعشرين دقيقة ، وفي هذه المدة يحتمل أن يرى بعض السيارات أو نحوها من النجوم المشرقة الممتازة - كالشعرى - هاويا للغروب ، ويغرب بعدها بربع ساعة ، ويغرب القمر في تلك الليلة بعد انتهاء الساعة الرابعة بدقيقتين من صبيحتها ، وتشرق الشمس بعد غروبه بأربع عشرة دقيقة ، ولكن يعكر على هذا أنه لا يظهر فيه جن الليل ، وهو إظلامه . وإنما يتعين تصوير وقوع ما ذكر في مثل هذه الليلة من الشهر والقمر بدر والشمس في الدرجة الخامسة من برج الثور ، إذا تعين أنه لا يجوز وصف القمر والشمس بالبزوغ إلا في أول طلوعهما من وراء أفق القطر كله ، وقد يقال : إن هذا غير متعين بالوصف ، وأنه يجوز أن يقال : رأيت القمر بازغا ولو بعد طلوعه بساعات ، كما يقال : رأيت ناب البعير بازغا بعد طلوعه بأيام . ثم إن البزوغ والغروب منهما ما هو حقيقي عرفا وما هو نسبي ، فمن كان في مكان مطمئن أو محاط بالبنيان والشجر ، يبزغ عليه القمر والشمس بعد بزوغهما في أفق قطره ، ويغربان عنه قبل غروبهما عن ذلك الأفق ، وقد يكون في مكان يحجب مشرقه ما ذكر دون مغربه وبالعكس - فيختلف البزوغ والغروب باختلاف ذلك . وبهذا يتسع مجال احتمال وقوع ما ذكر في ليلة واحدة وصبيحتها بغير تكلف . والكلام في الآيات مرتب على رؤية الكوكب رؤية غير مقيدة بحال ولا وصف ، وعلى رؤية القمر والشمس بازغين لا على بزوغها ، فالأول يصدق برؤيته قبيل الغروب في أول جنون الليل ، والآخران يصدقان بالرؤية في حال البزوغ النسبي ، وقد غفل عن هذه الدقة في تعبير التنزيل من زعم أن رؤية ما ذكر لا يتصور وقوعه في ليلة واحدة وصبيحتها ، ومن فرض لذلك وجود حال في ذلك المكان الخالي من الجبال .

                          ( فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) أي : فلما أفل القمر كالكوكب ، [ ص: 468 ] وهو أكبر منه منظرا وأبهى نورا من الأرض ، قال مسمعا من حوله من قومه : لئن لم يهدني ربي الذي خلقني إلى العبادة التي ترضيه بإعلام خاص من لدنه لأكونن من القوم الضالين عما يجب أن يعبد به ، فيتبعون فيه أهواءهم أو اجتهادهم ، فلا يكونون عابدين له بما يرضيه ، ولا يقتضي أن كل ضال يعبد الأصنام أو الكواكب ، بل هذا تعريض آخر بضلال قومه يقرب من التصريح ، وإرشاد إلى توقف هداية الدين على الوحي الإلهي .

                          قال ابن المنير في " الانتصاف " : والتعريض بضلالهم ثانيا أصرح وأقوى من قوله : " لا أحب الآفلين " وإنما ترقى في ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ، ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال ، فما عرض - صلوات الله عليه - بأنهم في ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى إتمام المقصود واستماعه إلى آخره ، والدليل على ذلك أنه ترقى النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ، والتقريع بأنهم على شرك بين ، ثم قيام الحجة عليهم ، وتبلج الحق ، وبلغ من الظهور غاية المقصود . انتهى . وذلك قوله عز وجل :

                          ( فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) أي قال مشيرا إليها على الطريقة التي بيناها فيما قبله : هذا الذي أرى الآن أو الذي أشير إليه ربي . قال الزمخشري : جعل المبتدأ مثل الخبر بكونهما عبارة عن شيء واحد ، كقولهم : ما جاءت حاجتك ، ومن كانت أمك . ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا ) وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ، ألا تراهم قالوا في صفة الله : علام ، ولم يقولوا علامة - وإن كان العلامة أبلغ - احترازا من علامة التأنيث . انتهى . وجوز أبو حيان أن يكون تذكير الإشارة إلى الشمس حكاية لما قيل بلغة العجم ، وأكثر لغاتهم لا تميز بين المذكر والمؤنث في الإشارة ولا في الضمائر . ونوقش في كون ذلك مقتضى الحكاية ، وفي دعوى كون لغة إبراهيم من تلك الأعجمية ، وقد سبق لنا القول بأنها عربية ممزوجة ، على أن بعض الأعاجم يذكرون الشمس ويؤنثون القمر . وسيأتي فيما نذكر من عقائد قوم إبراهيم أن للشمس زوجة .

                          وأما قوله - صلوات الله وسلامه عليه - : ( هذا أكبر ) فهو تأكيد لإظهار النصفة للقوم ، ومبالغة في تلك المجاراة الظاهرة لهم ، وتمهيد قوي لإقامة الحجة البالغة عليهم ، واستدراج لهم إلى التمادي في الاستماع بعد ذلك التعريض الذي كان يخشى أن يصدهم عنه . ومعناه أن هذا أكبر من القمر والكواكب قدرا ، وأعظم ضياء ونورا ، فهو إذا أجدر منهما بالربوبية ، إن كان المدار فيها على التفاضل والخصوصية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية