الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( المسألة الثانية : معنى الرب والإله وشبهة الشرك وكونه قسمان )

                          ظاهر ما حكاه الله تعالى عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أن قومه كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، فالإله هو المعبود ، فكل من عبد شيئا فقد اتخذه إلها ، والرب : هو السيد المالك والمربي والمدبر المتصرف ، وليس للخلق رب ولا إله إلا الله الذي خلقهم ، فهو المالك لكل شيء في كل زمن وكل حال ، وملكه حقيقي تام ، وملك غيره عرفي ناقص موقوت ، له أجل محدود ، وهو المعبود بحق ، إذ العبادة الحق لا تكون إلا للرب ; فإن العبادة هي التوجه بالدعاء وكل تعظيم قولي أو عملي إلى ذي السلطان الأعلى على عالم الأسباب ، وما فوق الأسباب ; لأنه هو الموجد لها والمتصرف فيها ، فهي خاضعة لسلطانه ، وكل ماعداه فهو خاضع لسلطانها بل سلطانه فيها . والأصل في اختراع كل عبادة لغيره تعالى أمران :

                          ( أحدهما أن بعض ضعفاء العقول رأوا بعض مظاهر قدرته تعالى في بعض خلقه ، فتوهموا [ ص: 474 ] أن ذلك ذاتي لهذا المخلوق ليس خاضعا لسنن الله في الأسباب والمسببات ; لقصر إدراكهم عن الوصول إلى كون القدرة الذاتية خاصة بخالق كل شيء الذي أعطى كل شيء خلقه وما امتاز به على غيره ، وكون خفاء سبب الخصوصية لا يقتضي عدم خضوع صاحبها لسنن الخالق فيها وفي غيرها من شئونه ( أي شئون صاحب الخصوصية ) ووثنية هؤلاء هي الوثنية السافلة .

                          ( ثانيهما ) اتخاذ بعض المخلوقات ذات الخصوصية في مظاهر النفع والضر وسيلة إلى الرب الإله الحق ، تشفع عنده ، وتقرب إليه كل من توجه إليها ، أو التماثيل والأصنام والقبور وغيرها مما يمثلها أو يذكر بها ، فيتوسل ذو الحاجة بدعائها وتعظيمها بالقول أو الفعل لأجل حمله تعالى - بتأثيرها عنده - على قبوله وإعطائه سؤله ، وهذا التوسل توجه إلى غير الله مبني على اعتقاد عدم انفراد الرب بالاستقلال بقضاء الحاجات ، وكونه يفعل بتأثير الوسيلة في إرادته ، وهذا شرك في العبادة ينافي الحنيفية . وهذه هي الوثنية الراقية التي كانت العرب عليها في زمن البعثة ; ولذلك كانوا يقولون في طوافهم :

                          لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .

                          وكان بعض قوم إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قد ارتقوا في وثنيتهم إلى هذه المرتبة في الجملة أو أوشكوا ، إذ إنهم عقلوا أن الأصنام لا تسمع دعاءهم ولا تبصر عبادتهم ، ولا تقدر على نفعهم ولا ضرهم ، وإنما قلدوا بعبادتها آباءهم ، كما يعلم من محاجته - عليه الصلاة والسلام - لهم في سورة الشعراء ( 26 : 69 ) إلخ . ولذلك اتخذوها آلهة معبودين ، لا أربابا مدبرين ، ولكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لما لها من التأثير السببي أو الوهمي في الأرض ، وتوسعوا في إسناد التأثير إليها حتى اخترعوا من ذلك ما لا شبهة له ، فكانوا يعتقدون أن الشمس رب النار ، ونير الأرض والسماء ، يدبر الملوك ، ويفيض عليهم روح الشجاعة والإقدام ، وينصر جندهم ، ويخذل عدوهم ، ويمزقه كل ممزق ، ويعتقدون نحو ذلك في زحل واسمه ( بيني ) ويعتقدون أن ( مرداخ ) وهو المشترى - شيخ الأرباب ورب العدل والأحكام ، حافظ الأبواب التي يدخلها الخصوم لفصل الخصومات - وأن ( رنكال ) وهو المريخ كمي الأرباب ، ورب الصيد ، وسلطان الحرب ، فهو يشترك مع زحل في تدبيره إلا أن هذا هو المقدم في الصيد ، وذاك المقدم في الحرب ، وأن ( عشتار - أو - نانا ) وهي الزهرة ربة الغبطة والسعادة ، ومفيضة السرور على الناس ، وتمثل في الآثار بامرأة عارية ، وأن ( نبو ) وهو عطارد رب العلم والحكمة .

                          وكانت حجة إبراهيم البالغة في حصر العبادة بالتوجه فيها إلى فاطر السماوات والأرض وحده دون غيره من الوسائط والوسائل ، ومثلها في سورة الأنبياء فقد قال في تماثيلهم : ( بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين ) ( 21 : 56 ) وبهذا كان [ ص: 475 ] يحتج جميع الرسل عليهم السلام ، وهو أقوى الحجج وأظهرها ، وأما ما ذكره إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - من التعريض قبلها فهو تمهيد لها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية