الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          تفسير صفة الرحمة على مذهب السلف

                          ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة ( ص 38 ) . تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولا . ومحصله أن الرحمة ليست من صفات الذات أو صفات المعاني القائمة بذاته تعالى لاستحالة معناها اللغوي عليه فيجب تأويلها بلازمها وهو الإحسان فتكون من صفات الأفعال كالخالق الرزاق . وقال بعضهم : يمكن تأويلها بإرادة الإحسان فترجع إلى صفة الإرادة فلا تكون صفة مستقلة . وهذا القول من فلسفة المتكلمين الباطلة المخالفة لهدي السلف الصالح . والتحقيق : أن صفة الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة وسائر ما يسميه الأشاعرة صفات المعاني ويقولون إنها صفات قائمة بذاته تعالى خلافا للمعتزلة . فإن معاني هذه الصفات كلها بحسب مدلولها اللغوي واستعمالها في البشر محال على الله تعالى إذ العلم بحسب مدلوله اللغوي هو صورة المعلومات في الذهن ، التي استفادها من إدراك الحواس أو من الفكر ، وهي بهذا المعنى محال على الله تعالى ، فإن علمه تعالى قديم بقدمه غير عرض منتزع من صور المعلومات . وكذلك يقال في سمعه تعالى وبصره وقد عدوهما من صفات المعاني القائمة بنفسه ، والرحمة مثلها في هذا .

                          فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق الثابت عقلا ونقلا بقوله - عز وجل - ( ليس كمثله شيء ) فنقول : إن لله علما حقيقيا هو وصف له ، ولكنه لا يشبه علمنا ، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لا يشبه سمعنا ، وإن له رحمة حقيقية هي وصف له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس ، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى فنجمع بذلك بين النقل والعقل ، [ ص: 65 ] وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من المجاز المرسل . أو الاستعارة التمثيلية كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالهما دون العلم والسمع والبصر وأمثالهما ، فهو تحكم في صفات الله وإلحاد فيها ، فأما أن تجعل كلها من باب الحقيقية مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العامة مع التنويه عن التشبيه ، وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتبار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوز .

                          وقد عبر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى عن هذا المعنى أفصح تعبير ، فقال في كتاب الشكر من الإحياء : إن الله - عز وجل - في جلاله وكبريائه صفة يصدر عنها الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى تعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها ، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها ، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس ، لا لغموض في نور الشمس ، ولكن لضعف أبصار الخفافيش ، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا : إن لله تعالى صفة هي القدرة ، عنها يصدر الخلق والاختراع اهـ .

                          وقد رجع الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ المتكلمين والنظار إلى مذهب السلف في نهاية أمره ، وصرح في آخر كتبه وهو ( الإبانة ) بذلك ، وأنه متبع للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة والمدافع عنها رحمهم الله أجمعين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية