الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ثمانية أزواج ) نصب ثمانية على أنه بدل من حمولة وفرشا بناء على كونهما قسمين لجميع الأنعام على القول الراجح . والزوج يطلق في اللغة على كل واحد من القرينين الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ، وعلى كل قرينين فيها وفي غيرها كالخف ، والنعل ، وعلى كل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا . قال الراغب : والاثنان زوجان . يقال : له زوجا حمام ( وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) ( 53 : 54 ) وقوله : ( من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) شروع في بيان هذه الأزواج الثمانية ، وتبكيتهم وتجهيلهم على تحريم بعضها [ ص: 124 ] دون بعض بغير مخصص ، أي من الضأن زوجين اثنين هما الكبش والنعجة ، ومن المعز زوجين اثنين هما التيس والعنز ، وفي المعز لغتان قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بفتح العين والباقون بسكونها - وقد بدأ في هذا التفصيل بنوع الفرش على أحد الأقوال فيه ، وبما لا يصلح إلا للأكل منه على القول بشموله لصغار الإبل والبقر ; لأنه هو المناسب في مقام إنكار تحريم أكل بعضه دون بعض بغير مخصص ، بعد أن قدم في الإجمال ذكر الحمولة لأنها أهم مقام الخلق والإنشاء والمنة بكون خلقها أعظم والانتفاع بها أعم ، فإنها كما يحمل عليها يؤكل منها ، وناهيك بسائر منافعها وبقوله تعالى تعجيبا بخلق أعظم صنفيها : ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ) ( 88 : 17 ) .

                          ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) أي قل لهم أيها الرسول : أحرم الله الذكرين من كل واحد من الزوجين وحدهما كما يدل عليه تقديم المفعول على عامله ، أم الأنثيين وحدهما ، أم الأجنة التي اشتملت عليها أرحام إناث الزوجين كليهما سواء أكانت ذكورا أم إناثا ؟ والاستفهام للإنكار ، أي أنه لم يحرم شيئا من هذه الثلاث . وبهذا السؤال التفصيلي يظهر للمتفكر فيه منهم أنه لا وجه يعقل لقولهم ; لأن ترتيب الحكم على الوصف بالذكورة أو الأنوثة أو الحمل يكون لغوا أو جهالة فاضحة إذا لم يكن تعليلا ، والتعليل بهذه الأوصاف لا وجه له ويلزمه ما لا يقولون به ، وبعدمه يلزمهم التحكم في أحكام الله وكون الافتراء عليه بغير أدنى علم ولا عقل ، ولذلك قال : ( نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) أي خبروني بعلم يؤثر عن أحد رسل الله أو ببينة متلبسة بعلم يركن إليه العقل بأن الله حرمها عليكم ، وإلا كان تخصيص ما حرمتم دون أمثاله جهلا محضا كما أنه افتراء كذب .

                          ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ) الإبل اسم جمع لجنس الأباعر ، وهي مؤنثة لأن اسم الجمع الذي لا واحد له من لفظه إذا كان لما لا يعقل لزمه التأنيث ، وتدخله الهاء إذا صغر نحو أبيلة وغنيمة ، وتسكن ياؤه لغة للتخفيف . ومفرده بعير وهو يقع في أصل اللغة على الذكر والأنثى مثل الإنسان ولكنه غلب في عرف المولدين على الذكر ، وإنما الجمل اسم للذكر كالرجل في الناس ، والناقة للأنثى كالمرأة . والبقر اسم جنس وتطلق البقرة على الذكر والأنثى كما قال الجوهري كالشاة من الغنم وإنما الهاء للوحدة ، والثور الذكر من البقر والأنثى ثورة والجمع ثيران وأثورة وثيرة ( كعنبة ) والبقر الأهلية صنفان عراب وجواميس ويقابلها بقر الوحش ، وليست من الأنعام وإن كانت تؤكل ، والمراد بالذكرين والأنثيين وما حملت أرحام الأنثيين مثل ما تقدم في الغنم والمعز إذ لا فرق بينهما في طريق الإنكار المراد من الاستفهام . وقد لخص السيد الآلوسي أقوال المفسرين في هذه الآية أحسن تلخيص بقوله في روح المعاني : [ ص: 125 ] والمعنى كما قال كثير من أجلة العلماء : إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك ، وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم ، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى ، مسندين ذلك كله لله سبحانه ، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة ، والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ ، وبيانه على ما قاله السكاكي : إن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة ، فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني ، كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محله كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة ، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال : قل آلذكور حرم أم الإناث ؟ أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت . ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا : إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى ، فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما ، وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون إناثها حراما ، وإن كان حرم الله تعالى ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكور والإناث . وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول : هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة ، بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات ، كما إذا قلنا : إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل ، فإذا قيل : إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر ، وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى ، ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون . ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غنى عن نقلهما ، ومن الناس من زعم أن المراد من الأنثيين في الضأن والمعز والبقر : الأهلي والوحشي ، وفي الإبل : العربي والبختي ، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ، وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه ، وقول الطبرسي إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو " شنشنة أعرفها من أخزم " اهـ .

                          وأقول : إن قول الرازي إن علة تحريم ما حرموا من الأنعام هي كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة لا كونها ذكرا أو أنثى أو حملا لها - فيه أن الإنكار عليهم في جعلهم إياها كذلك كما هو صريح آية المائدة فهو جهل لا يعقل أن يكون علة التحريم فالحرام منه مثل [ ص: 126 ] الحلال ، وما ذكر في التفصيل في الإنكار يذكر المفكر المستقل بأن ما قالوه عين الجهل ، وهو ما انفردنا ببيانه آنفا .

                          وقوله : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا ) بعد تعجيزهم عن الإتيان بعلم يؤثر عن أحد من رسل الله بتحريم ما زعموا ، ألزمهم هنا ادعاء تحريم الله إياه عليهم بوصية سمعوها منه ; لأن العلم عن الله إما أن يكون برواية رسول له يخبر بوصية عنه ، أو يتلقى ذلك منه سبحانه وتعالى بغير واسطة رسول ، والشهداء هم الحضور المشاهدون للشيء وهو جمع شهيد . والمعنى : أعندكم علم يؤثر عن أحد من رسل الله فنبئوني به ، أم شاهدتم ربكم فوصاكم بهذا التحريم كفاحا بغير واسطة ؟ وهم لا يدعون هذا ولا ذاك وإنما يفترون على الله الكذب بدعوى التحريم افتراء مجردا من كل علم ، ويقلد بعضهم بعضا في قوله : إن الله أمركم بتحريم ما حرموا واقتراف كل ما اقترفوا كما قال تعالى فيهم : ( وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 7 : 28 ) والاستفهام الإنكاري هنا يتضمن التهكم بهم ، إذ كانوا بعدم اتباع أحد من رسل الله كالمدعين على إنكارهم للرسالة بأنهم يشاهدون الله ويتلقون منه أحكام الحلال والحرام ، وما استبعدته أنظارهم السقيمة من الوحي أقرب من هذا الذي يقعون فيه بإنكارهم له بمثل قولهم : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) ( 91 ) وإلا لزمهم الافتراء على الله تعالى لإضلال عباده وهو أشد الظلم الذي يجنيه الإنسان على نفسه وغيره ، ولذلك قال تعالى تعقيبا على ما تقدم : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) أي وإذا كان الأمر كذلك وقامت عليكم الحجة به ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا بتحريم ما لم يشرعه وشرع ما لم يشرعه ، ليضل الناس به بحملهم على اتباعه فيه مع نسبته إلى الله تعالى بغير علم ما يكون حجة له فيه . والاستفهام إنكاري والمعنى لا أحد أظلم منكم لأنكم من هؤلاء المفترين على الله بقصد الإضلال عن جهل عام تام . فالعلم المنفي يشمل ما يؤثر أو يعقل ويستنبط كالنظر العقلي والتجارب العملية ، وطرق درء المفاسد والشرور والمضار وتقدير المصالح والمنافع وعمل البر والخير ، كما يدل عليه تنكيره في حيز النفي المستفاد من كلمة غير ، فإن قيل : ما حكمة نفي كل نوع من أنواع العلم في أمر التشريع الديني الذي ليس له مصدر غير وحي الله ورسله ؟ قلنا : هي تسجيل الجهل العام المطلق عليهم عامة . وسوء النية على مفتري ذلك لهم خاصة بأنه ليس له أثارة من علم ، ولا قصد إلى شيء من الهدى إلى حق أو خير ، وتسجيل الغباوة وعمى البصيرة على متبعيه بمحض التقليد من غير عقل ولا هدى .

                          وقد وجد في البشر أناس آخرون تفكروا وبحثوا في العلم الإلهي وما يجب أن يشكر الله تعالى به تعبدا من اتباع الحق والعدل وفعل الخيرات التي يدل عليها العقل ، وفيما ينبغي [ ص: 127 ] اجتنابه من طعام وشراب ضار بالبدن أو العقل - وهم الحكماء - فأصابوا في بعض ما هدتهم إليه عقولهم وتجاربهم ، وأخطئوا في بعض ، فكانوا خير الناس لأنفسهم وللناس في فترات الرسل التي فقدت فيها هداية الوحي . وهم المشار إليهم بقوله تعالى : ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ) ( 3 : 21 ) فالذين يأمرون بالقسط وهو العدل والاعتدال في الأخلاق والآراء والأعمال وبشكر المنعم هم حكماء البشر وعقلاؤهم ، وقد وضع قصي للعرب سننا حسنة لسقاية الحاج ورفادتهم وإطعامهم وللشورى في الخطوب ، ومن أعمال قريش الحسنة حلف الفضول لمنع الظلم وقد مدحه النبي صلى الله عليه وسلم بعد الإسلام لأنه من الأمر بالقسط بسائق العقل وسلامة الفطرة ومن أهل الجاهلية من حرم على نفسه الخمر لمفاسدها . ويدل هذا القيد على تعظيم الإسلام لشأن العلم وله نظائر في الكتاب العزيز . وقد ثبت في الصحيح أن عمرو بن لحي الخزاعي هو أول من سيب لهم السوائب وبحر البحائر وغير دين إسماعيل فاتبعوه ، وسنعقد لهذا فصلا خاصا وفاء بما وعدنا في تفسير آية المائدة .

                          ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) إلى الحق والعدل . لا من طريق الوحي ولا من طريق العلم . فإنهم ما داموا متصفين بالظلم متعاونين عليه فهو يصدهم عن استعمال عقولهم ، فيما يهديهم إلى صوابهم ، وإذا كان هذا شأن الظالمين مهما تكن درجة ظلمهم فكيف يكون أظلم الناس على الإطلاق وهم الذين وصفت الآية ظلمهم بالافتراء على الله لإضلال عباده ! .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية