الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أساليب القرآن في العقائد الإلهية :

                          أما مسائل العقائد في الإلهيات فقد فصلت أبلغ تفصيل بأساليب القرآن العالية الجامعة بين الإقناع والتأثير ، كبيان صفات الله في سياق بيان أفعاله وسننه في الخلق والتكوين ، والتقدير والتدبير . وآياته في الأنفس والآفاق ، وطبائع الاجتماع وملكات الأخلاق ، وتأثير العقائد في الأعمال وما يترتب عليها في الدارين من الجزاء ، وناهيك بإيراد الحقيقة بأسلوب المناظرة والجدال ، أو ورودها جوابا بعد سؤال ، أو تجليها في ورود الوقائع وضروب الأمثال ، وهذا الأسلوب أعلى الأساليب وأكملها جمعا بين إقناع العقول والتأثير في القلوب ، فيقترن اليقين في الإيمان ، بحب التعظيم وخشوع الخوف والرجاء . وفي أثناء ذلك يذكر شبهات المشركين والكفار ، فيكون مثلها فيه كقطعة من الطين الآسن تلقى في غدير صاف . يتدفق من صخر . على حصباء كالدر . لا تلبث أن تتضاءل وتخفى . ولا تكدر له صفوا . حتى إنه ليستغنى ، بمجرد بيانها ، عن وصف قبحها والحجة على بطلانها ، فكيف وهي تقرن غالبا بالوصف الكاشف لما غشيها من التلبيس . أو يقفى عليها بالبرهان الدامغ لما فيها من الأباطيل . ولا تغفل عن أسلوب إحالة المخاطبين على ما أودع في غرائزهم وفطرهم . وتذكيرهم بمعارضته لما ألفوا من تقاليدهم وفساد نظرهم . ولا عن أسلوب إنذار سوء المغبة في العاجلة . وسوء العاقبة والمصير في الآخرة .

                          أضلت الفلسفة اليونانية علماء الكلام عن هذه الأساليب العليا فلم يهتدوا بها ولا اقتدوا بشيء منها ، بل طفقوا يلقنون النشء الإسلامي صفات الله تعالى مسرودة سردا معدودة عدا . [ ص: 240 ] معرفة بحدود ناقصة ، أو رسوم دارسة مقرونة بأدلة نظرية وتشكيكات جدلية . لا تثمر إيمان الإذعان ، ولا خشية الديان ، ولا حب الرحمن ، بل تثير رواكد الشبهات . وتتعارض في إثباتها دلائل النظريات .

                          تأمل كيف بدئت هذه السورة بحمد الله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور . ثم التذكير بخلق الناس وقضاء الآجال ، وكيف عطف على الأول ذكر شرك الكافرين بربهم بجعل بعض خلقه عدلا له . مع أن البداهة قاضية بأن الرب الخالق لا يعادله أحد ولا شيء من خلقه . وعطف على الثاني التنبيه لإعراضهم عن الآيات الدالة على الحق ، وأنه هو المانع لهم من العلم . تذكيرا للمستعد للفهم بالمانع ليجتنب ، والمقتضي ليتبع ، وإيذانا للعاقل بأن عقائد الإسلام مؤيدة بالحجة والبرهان .

                          ولما كان التوحيد الذي هو لباب الدين وروحه نوعين - توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية - بين كلا منهما بالآيات والبراهين ، ولما كان الشرك في الربوبية قليلا في الناس والشرك في الإلهية دون الربوبية هو الكثير الفاشي ، وعليه سواد جاهلية العرب الأعظم ، بني القول ببطلان هذا على بطلان ذاك ، كما بنيت حجج إثبات أحدهما على المعترف به من إثبات الآخر ، راجع في فهرسي الجزءين السابع والثامن من التفسير بحث الإيمان والتوحيد والشرك والشفاعة والرب والإله والجزاء ، وفي آخر تفسير السورة بحث نجاة الناس وسعادتهم أو شقاوتهم بأعمالهم .

                          وأنتقل بك من هذا التذكير إلى قصة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا وآلهما وسلم مع أبيه وقومه في إنكاره عليهم اتخاذ الأصنام آلهة أي معبودين . واتخاذ الكواكب أربابا أي مدبرين لأمور العالم وإن لم يكونوا خالقين ، وهو بحث جاء بأسلوب المناظرة في قصة واقعة تعددت فيها الحجج على توحيد الألوهية والربوبية معا ، فكان أجدر بأن يوعى فيحفظ ، ويعقل فيقبل . وقد أسهبنا القول في تفسيره بما لم يأت بمثله أحد من المفسرين المعروفين فاستغرق خمسين صفحة أو أكثر ص435 - 486 ج 7 ط الهيئة .

                          ومن أبلغ ما في السورة من تقرير عقيدة التوحيد وسوء حال أهل الشرك في ضلالهم عنها وإعراضهم عن آياتها بأسلوب التمثيل قوله تعالى : ( والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) ( 39 ) فارجع إلى تفسيرها ( في ص336 - 339 من ج7 تفسير ) وقوله تعالى : ( قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ) ( 71 ) إلخ . فراجع تفسيرها ( ص 435 - 442 ط الهيئة منه أيضا ) . [ ص: 241 ] ولا حاجة إلى الدلالة على شواهد بيان التوحيد من طريق السؤال والجواب لكثرتها مع ظهورها لكل قارئ بصيغتها .

                          ولعل أرق أساليب الإقناع ، وأبلغ وسائل الإذعان بأصول الإيمان ، إحالة المخاطبين إلى غرائزهم وفطرهم ، وتذكيرهم بتأثير التربية التقليدية في أنفسهم ، ومناشئ عروض الشبهات لأذهانهم ، وإلزامهم الحجة بمحاسبة عقولهم لأنفسهم على تعارض الأفكار وتناقض الأقوال ، بسبب اختلاف الأوقات والأحوال ، ومخالفة التقاليد والمسلمات ، للغرائز والملكات . ويتلو هذا الأسلوب إحالتهم على مثال ذلك في غيرهم من الناس بالنظر في أحوال المعاصرين ، والاعتبار بسير الغابرين . فآياته تعالى في الأنفس أقوى من آياته في غيرها ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ( 51 : 20 ، 21 ) . تأمل وصف المعاندين من مشركي مكة في الآية الرابعة وما بعدها إلى آخر التاسعة بالإعراض عن جميع الآيات التي تأتيهم من ربهم ، وتكذيبهم بالحق لما جاءهم ، والحزم بأنهم يكابرون الحس ويشتبهون في اللمس ولا يخرجون من محيط اللبس ، وقابله بقوله : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ) ( 109 ) إلى قوله في آخر الآيتين بعدها ( ولكن أكثرهم يجهلون ) ( 111 ) ثم بما يناسبه من إقامة الحجة عليهم بقطع إنزال الكتاب لاعتذارهم بيوم القيامة عن شركهم وضلالهم بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلهم وكانوا غافلين عن دراسته ، جاهلين لهدايته ، وأنه لو أنزل عليهم لكانوا أهدى منهم لذكاء عقولهم وعلو همتهم - فراجع تفسير الآيات 154 - 157 .

                          ثم تأمل قوله تعالى في أولئك المعرضين بعد تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن جحودهم ( وإن كان كبر عليك إعراضهم ) ( 35 ) إلى آخر الآية ( 39 ) تر كيف سجل عليهم الجهل والحرمان من العلم ، وشبههم بالصم البكم ، ثم تأمل كيف التفت عن خطاب الرسول إلى خطابهم ، سائلا إياهم أن يراجعوا عقولهم وضمائرهم ويخبروا كيف حالها إذا أتاها عذاب الله أو أتتها الساعة ؟ أغير الله يدعون في هذه الحالة ؟ ثم أجاب عنهم بما يعلمونه حق العلم من أنفسهم وهو أنهم في مثل هذه الشدة القصوى يدعون الله وحده دون غيره لا يخطر في بالهم سواه ، وهذا هو الإيمان الوجداني الذي فطر الله عليه الناس فأضلتهم عنه الوساوس الوهمية ، والتقاليد الموروثة ( راجع تفسير هذه الآيات في ص317 - 345 ج 7 ط الهيئة ) .

                          ولا تغفل عند مراجعة ما ذكر من الآيات في هذا الأسلوب عما يمازجها أو يقارنها من الآيات في الأسلوب الآخر المناسب له ، وهو التذكير بأحوال الأمم في كفرهم وعنادهم ، وقيام حجج الرسل عليهم . فإنما غرضنا هذا التنبيه والتذكير ، وإذا أحيانا الله تعالى ووفقنا لإنجاز ما وعدنا به من وضع كتاب في فقه القرآن وهدايته مرتب على أبواب العقائد والآداب [ ص: 242 ] والأعمال الدينية والمدنية فهناك نستوفي بيان هذه الأساليب في إثبات العقائد بالشواهد من القرآن كله .

                          ولا حاجة إلى ذكر شيء من الشواهد على أسلوب إنذار العاقبة وسوء المصير في الدنيا والآخرة فإنها جلية واضحة الأساليب في عقيدة الوحي والرسل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية