الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فمنها سحر أهل بابل ) الذين ذكرهم الله تعالى في قوله : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ( 2 : 102 ) وكانوا قوما صابئين يعبدون الكواكب ويسمونها آلهة ، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها ، وهم معطلة لا يعترفون بالصانع الواحد المبدع للكواكب وجميع أجرام العالم ، وهم الذين بعث الله تعالى إليهم إبراهيم خليله صلوات الله عليه فدعاهم إلى الله تعالى وحاجهم بالحجاج الذي بهرهم به ، وأقام عليهم به الحجة من حيث لم يمكنهم دفعه ، ثم ألقوه في النار فجعلها الله بردا وسلاما ، ثم أمره الله تعالى بالهجرة إلى الشام ، وكان أهل بابل وإقليم العراق والشام ومصر والروم على هذه المقالة إلى أيام بيوراسب الذي تسميه العرب الضحاك ، وأن أفريدون وكان من أهل دنياوند استجاش عليه بلاده ، وكاتب سائر من يطيعه ، وله قصص طويلة حتى أزال ملكه وأسره ، وجهال العامة والنساء عندنا يزعمون أن أفريدون حبس بيوراسب في جبل دنياوند العالي على الجبال ، وأنه حي هناك مقيد ، وأن السحرة يأتونه هناك فيأخذون عنه السحر ، وأنه سيخرج فيغلب على الأرض ، وأنه هو الدجال الذي أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحذرناه ، وأحسبهم أخذوا ذلك عن المجوس ، وصارت مملكة إقليم بابل للفرس ، فانتقل بعض ملوكهم إليها في بعض الأزمان فاستوطنوها ، ولم يكونوا عبدة أوثان ، بل كانوا موحدين مقرين بالله وحده ، إلا أنهم مع ذلك يعظمون العناصر الأربعة : الماء ، والنار ، والأرض ، والهواء ؛ لما فيها من منافع الخلق ، وأن بها قوام الحيوان ، وإنما حدثت المجوسية فيهم بعد ذلك في زمان كشتاسب حين دعاه زرادشت فاستجاب له على شرائط يطول شرحها ، وإنما غرضنا في هذا الموضع الإبانة عما كانت عليه سحرة بابل ، ولما ظهر الفرس على هذه الإقليم كانت [ ص: 45 ] تتدين بقتل السحرة وإبادتها ، ولم يزل ذلك فيهم من دينهم بعد حدوث المجوسية فيهم وقبله إلى أن زال عنهم الملك .

                          " وكانت علوم أهل بابل قبل ظهور الفرس عليهم الحيل والنيرنجبات وأحكام النجوم ، وكانوا يعبدون أوثانا قد علموها على أسماء الكواكب السبعة ، وجعلوا لكل واحد منها هيكلا فيه صنمه ، ويتقربون إليها بضروب من الأفعال على حسب اعتقاداتهم من موافقة ذلك الكوكب الذي يطلبون منه بزعمهم فعل الخير أو شر ، فمن أراد شيئا من الخير والصلاح بزعمه يتقرب إليه بما يوافق المشترى من الدخن والرقى والعقد والنفث عليها ، ومن طلب شيئا من الشر والحرب والموت والبوار لغيره تقرب بزعمه إلى زحل بما يوافقه من ذلك ، ومن أراد البرق والحرق والطاعون تقرب بزعمه إلى المريخ بما يوافقه من ذلك من ذبح بعض الحيوانات ، وجميع تلك الرقى بالنبطية تشتمل على تعظيم تلك الكواكب إلى ما يريدون من خير أو شر ومحبة وبغض فيعطيهم ما شاءوا من ذلك ، فيزعمون أنهم عند ذلك يفعلون ما شاءوا في غيرهم من غير مماسة ولا ملامسة سوى ما قدموه من القربات للكوكب الذي طلبوا ذلك منه ، فمن العامة من يزعم أنه يقلب الإنسان حمارا أو كلبا ثم إذا شاء أعاده ، ويركب البيضة والمكنسة والخابية ويطير في الهواء يمضي من العراق إلى الهند وإلى ما شاء من البلدان ثم يرجع من ليلته .

                          " وكانت عوامهم تعتقد ذلك ؛ لأنهم كانوا يعبدون الكواكب ، وكل ما دعا إلى تعظيمها اعتقدوه ، وكانت السحرة تحتال في خلال ذلك بحيل تموه بها على العامة إلى اعتقاد صحته ، بأن يزعم أن ذلك لا ينفذ ولا ينتفع به أحد ، ولا يبلغ ما يريد إلا من اعتقد صحة قولهم وتصديقهم فيما يقولون .

                          " ولم تكن ملوكهم تعترض عليهم في ذلك ، بل كانت السحرة عندها بالمحل الأجل لما كان لها في نفوس العامة من محل التعظيم والإجلال ؛ ولأن الملوك في ذلك الوقت كانت تعتقد ما تدعيه السحرة للكواكب ، إلى أن زالت تلك الممالك ، ألا ترى أن الناس في زمن فرعون كانوا يتبارون بالعلم والسحر والحيل والمخارق ؛ ولذلك بعث إليهم موسى عليه السلام بالعصا والآيات التي علمت السحرة أنها ليست من السحر في شيء ، وأنها لا يقدر عليها غير الله تعالى ، فلما زالت تلك الممالك ، وكان من ملكهم بعد ذلك من الموحدين يطلبونهم ويتقربون إلى الله تعالى بقتلهم ، كانوا يدعون عوام الناس وجهالهم سرا كما يفعله الساعة كثير ممن يدعي ذلك مع النساء والأحداث الأغمار والجهال الحشو .

                          وكانوا يدعون من يعملون له ذلك إلى تصديق قولهم والاعتراف بصحته ، والمصدق لهم بذلك يكفر من وجوه : ( أحدهما ) : التصديق بوجوب تعظيم الكواكب وتسميتها آلهة .

                          ( والثاني ) : اعترافه بأن الكواكب تقدر على ضره ونفعه .

                          ( والثالث ) : أن السحرة تقدر على [ ص: 46 ] مثل معجزات الأنبياء عليهم السلام ، فبعث الله إليهم ملكين يبينان للناس حقيقة ما يدعون ، وبطلان ما يذكرون ، ويكشفان لهم ما به يموهون ، ويخبرانهم بمعاني تلك الرقى ، وأنها شرك وكفر ، بحيلهم التي كانوا يتوصلون بها إلى التمويه على العامة ، ويظهران لهم حقائقها ، وينهيانهم عن قبولها والعمل بها ، بقولهما لهم : إنما نحن فتنة فلا تكفر ( 2 : 102 ) فهذا أصل سحر بابل ، ومع ذلك فقد كانوا يستعملون سائر وجوه السحر والحيل التي نذكرها ، ويموهون بها على العامة ، ويعزونها إلى فعل الكواكب ؛ لئلا يبحث عنها ويسلمها لهم .

                          " فمن ضروب السحر كثير من التخيلات التي مظهرها على خلاف حقائقها ، فمنها ما يعرفه الناس بجريان العادة بها وظهورها ، ومنها ما يخفى ويلطف ولا يعرف حقيقته ومعنى باطنه إلا من تعاطى معرفة ذلك ؛ لأن كل علم لا بد أن يشتمل على جلي وخفي وظاهر وغامض ، فالجلي منه يعرفه كل من رآه وسمعه من العقلاء ، والغامض الخفي لا يعرفه إلا أهله ، ومن تعاطى معرفته وتكلف فعله والبحث عنه ، وذلك نحو ما يتخيل راكب السفينة إذا سارت في النهر فيرى أن الشط بما عليه من النخل والبنيان سائر معه ، وكما يرى القمر في مهب الشمال يسير للغيم في مهب الجنوب ، وكدوران الدوامة فيها الشامة فيراها كالطوق المستدير في أرجائها ، وكذلك يرى هذا في الرحى إذا كانت سريعة الدوران ، وكالعود في طرفه الجمرة إذا أداره مديره رأى تلك النار التي في طرفه كالطوق المستدير ، وكالعنبة التي يراها في قدح فيه ماء كالخوخة والإجاصة عظما ، وكالشخص الصغير يراه في الضباب عظيما جسيما ، وكبخار الأرض الذي يريك قرص الشمس عند طلوعها عظيما فإذا فارقته وارتفعت صغرت ، وكما يرى المرئي في الماء منكسرا أو معوجا ، وكما يرى الخاتم إذا قربته من عينك في سعة حلقة السوار ، ونظائر ذلك كثيرة من الأشياء التي تتخيل على غير حقائقها فيعرفها عامة الناس .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية