الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 48 ] ( وضرب آخر ) من السحر ، وهو ما يدعونه من حديث الجن والشياطين وطاعتهم لهم بالرقى والعزائم ، ويتوصلون إلى ما يريدون من ذلك بتقدمة أمور ، ومواطأة قوم قد أعدوهم لذلك ، وعلى ذلك كان يجري أمر الكهان من العرب في الجاهلية ، وكانت أكثر مخاريق الحلاج من باب المواطآت ، ولولا أن هذا الكتاب لا يحتمل استقصاء ذلك لذكرت منها ما يوقف على كثير من مخاريق أمثاله وضرر أصحاب العزائم ، وفتنتهم على الناس غير يسير ؛ وذلك أنهم يدخلون على الناس من باب أن الجن إنما تطيعهم بالرقى التي هي أسماء الله تعالى فإنهم يجيبون بذلك من شاءوا ، ويخرجون الجن لمن شاءوا ، فتصدقهم العامة على اغترار بما يظهرون من انقياد الجن لهم بأسماء الله تعالى التي كانت تطيع بها سليمان بن داود عليهما السلام ، وأنهم يخبرونهم بالخبايا ، وبالسرق .

                          " وقد كان المعتضد بالله مع جلالته وشهامته ووفور عقله اغتر بقول هؤلاء ، وقد ذكره أصحاب التواريخ ، وذلك أنه كان يظهر في داره التي كان يخلو فيها بنسائه وأهله شخص في يده سيف في أوقات مختلفة ، وأكثره وقت الظهر ، فإذا طلب لم يوجد ، ولم يقدر عليه ، ولم يوقف له على أثر مع كثرة التفتيش ، وقد رآه هو بعينه مرارا ، فأهمته نفسه ، ودعا بالمعزمين فحضرا وأحضروا معهم رجالا ونساء وزعموا أن فيهم مجانين وأصحاء ، فأمر بعض رؤسائهم بالعزيمة فعزم على رجل منهم زعم أنه كان صحيحا فجن وتخبط وهو ينظر إليه ، وذكروا له أن هذا غاية الحذق بهذه الصناعة إذ أطاعته الجن في تخبيط الصحيح ، وإنما كان ذلك المعزم بمواطأة منه لذلك الصحيح على أنه متى عزم عليه جنن نفسه وخبط ، فجاز ذلك على المعتضد فقامت نفسه منه وكرهه ، إلا أنه سألهم عن أمر الشخص الذي يظهر [ ص: 49 ] في داره فمخرقوا عليه بأشياء علقوا قلبه بها من غير تحصيل لشيء من أمر ما سألهم عنه ؛ فأمره بالانصراف ، وأمر لكل واحد ممن حضر بخمسة دراهم ، ثم تحرز المعتضد بغاية ما أمكنه ، وأمر بالاستيثاق من سور الدار حيث لا يمكن فيه حيلة من تسلق ونحوه ، وبطحت في أعلى السور خراب لئلا يحتال بإلقاء المعاليق التي يحتال بها اللصوص .

                          " ثم لم يوقف لذلك الشخص على خبر إلا ظهوره له الوقت بعد الوقت إلى أن توفي المعتضد ، وهذه الخوابي المبطوحة على السور ، وقد رأيتها على سور الثريا التي بناها المعتضد فسألت صديقا لي كان قد حجب للمقتدر بالله عن أمر ذلك الشخص ، وهل تبين أمره ؟ فذكر لي أنه لم يوقف على حقيقة هذا الأمر إلا في أيام المقتدر ، وأن ذلك الشخص كان خادما أبيض يسمى ( يقق ) وكان يميل إلى بعض الجواري اللاتي في داخل دور الحريم ، وكان قد اتخذ لحى على ألوان مختلفة ، وكان إذا لبس بعض تلك اللحى لا يشك من رآه أنها لحيته ، وكان يلبس في الوقت الذي يريده لحية منها ، ويظهر في ذلك الموضع وف يده سيف أو غيره من السلاح حيث يقع نظر المعتضد ، فإذا طلب دخل بين الشجر الذي في البستان أو في بعض تلك الممرات أو العطفات ، فإذا غاب عن أبصار طالبيه نزع اللحية جعلها في كمه أو حزته ، ويبقى السلاح معه كأنه بعض الخدم الطالبين للشخص ، ولا يرتابون به ، ويسألونه : هل رأيت في هذه الناحية أحدا ، فإنا قد رأيناه صار إليها ؟ فيقول : ما رأيت أحدا ، وكان إذا وقع مثل هذا الفزع في الدار خرجت الجواري من داخل الدور إلى هذا الموضع فيرى هو تلك الجارية ويخاطبها بما يريد ، وإنما كان غرضه مشاهدة الجارية وكلامها ، لم يزل هذا دأبه إلى أيام المقتدر ، ثم خرج إلى البلدان ، وصار إلى طرطوس ، وأقام بها إلى أن مات وتحدثت الجارية بعد ذلك بحديثه ، ووقف على احتياله ، فهذا خادم قد احتال بمثل هذه الحيلة الخفية التي لم يهتد لها أحد من شدة عناية المعتضد بها ، وأعياه معرفتها والوقوف عليها ، ولم تكن صناعته الحيل والمخاريق فما ظنك بمن قد جعل هذا صناعة ومعاشا ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية