الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( التحقيق في مسألة رؤية الرب - سبحانه وتعالى - )

                          إن من أصول العقائد القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن نعيم الآخرة قسمان : روحاني وجسماني ؛ لأن البشر لا تنقلب حقيقتهم في الآخرة بل يبقون بشرا أولي أرواح وأجساد ، ولكن الروحانية تكون هي الغالبة على أهل الجنة ، فيكون النعيم الروحاني عندهم أعلى من النعيم الجسماني ، ومن الثابت بالاختبار والتجارب أن العلماء الراسخين والحكماء الربانيين ، والفلاسفة الماديون والرؤساء السياسيون - كلهم يفضلون اللذات العقلية الروحية والحياة المعنوية ، على اللذات المادية الجسدية ، فترى أحدهم يزهد في أطايب الطعام ، وكئوس المدام ، ويتجافى جنبه عن مضجعه ، ذاهلا عن حقوق حليلته ، تلذذا بحل مشكلات المسائل واكتشاف أسرار الكون ، أو بالنفث في عقد السياسة ، وما تقتضيه أعباء الرياسة .

                          ألا وإن أعلى العلوم العقلية والمعارف الروحية في هذه الدنيا هو معرفة الله - سبحانه وتعالى - ، والعلم بمظاهر أسمائه وصفاته في خلقه ، والوقوف على سننه وأسراره فيها ، وكشف الحجب عما أودع فيها من الجمال والجلال ، وفي النظام الذي قامت به من آيات الكمال ، التي هي مجلى صفات بارئها ، وهو منتهى الجمال والجلال والكمال ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال .

                          وما زال أصحاب الهمم العالية من العلماء والحكماء يستدلون بما ظهر لهم من تلك السنن والآيات على كمال مبدعها ومبدئها ومصرفها ، وتتطلع عيون عقولهم إلى كيفية صدور الوجود الممكن الحادث ( وهو مجموع هذه العوالم العلوية والسفلية ) عن الوجود الأزلي الواجب ، ويهتمون بارتقاء الأسباب للوصول إلى معرفة أول موجود ممكن منها ، وكيف ابتدأت سلسلة الأسباب بعد ذلك بتحول البسائط ، وتولد بعضها من بعض ، قبل وجود هذه المركبات المعروفة من السماء والأرض ؛ طمعا في معرفة حقيقة ذلك الوجود الأعلى على عجزهم عن إدراك كنه أدنى هذه الموجودات السفلى ، وقد اختلف الحكماء في إمكان وصول العلم البشري إلى حقيقة الوجود الأول الأزلي ، وكيفية صدور الموجودات الممكنة عنه ، فقال بعضهم بإمكان ذلك ، وتوقع حصوله في يوم من الأيام ، وقال آخرون : بأنه فوق استعداد الأنام .

                          [ ص: 132 ] والحق في ذلك ما هدانا إليه دين الله الحق ، وهو أن إدراك أبصار الخلق له - سبحانه وتعالى - وإحاطة علمهم به من المحال الذي لا مطمع فيه لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ( 6 : 103 ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما ( 20 : 110 ) ولكن العجز عن الإدراك والإحاطة ، لا يستلزم العجز عما دون ذلك من العلم والمعرفة ، التي ترتقي إلى الدرجة التي عبر عنها بالتجلي والرؤية ، فإن كانت ظواهر الآيات في ذلك متعارضة ، فالأحاديث والآثار الصحيحة المبينة له جليلة واضحة ، وإنما وقع المراء بين المتكلمين والمتفلسفين وبين علماء الآثار في كلمة " الرؤية " فأثبتها أهل الأثر لدلالة ظواهر القرآن ونصوص الأحاديث عليها ، ومنعوا قياس رؤية الباري - تعالى - على رؤية المخلوقات ، بدعوى استلزامها التحيز والحدود وغير ذلك من صفات الأجسام ، وقالوا : إننا لا نبحث في كيفية ذاته ولا صفاته تعالى ، فإننا نجزم بأن له علما وقدرة وسمعا وبصرا ، ولكن علمه ليس ناشئا كعلمنا عن انطباع صور المعلومات في النفس ، ولا مكتسبا له بالحواس أو الفكر ، وكذلك قدرته وسائر صفاته ، فنحن نجمع بين الإيمان بالنصوص في أسماء الله وصفاته وأفعاله وسائر شئونه ، وبين تنزيهه عما لا يليق به من مشابهة خلقه الممنوعة بدلائل النقل والعقل ، كما قال - عز وجل - : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( 42 : 11 ) .

                          ونفاها ( بعض ) أهل الكتاب والفلسفة بناء على قياس الخالق - سبحانه وتعالى - على المخلوق ، ودعوى منافاة الرؤية للتنزيه ، الذي هو أصل العقيدة وركنها الركين ، ولكنهم لا يستطيعون إنكار الحقيقة التي أثبتها أهل السنة والجماعة إذا عبر عنها بغير لفظ الرؤية ، كأن يقال : إن أعلى نعيم أهل الجنة لقاء الله - تعالى - بتجليه عليهم تجليا يحصل لهم به أعلى ما استعدت له أنفسهم وأرواحهم من المعرفة ، وإن أعظم عقاب لأهل النار حجبهم عن ربهم وحرمانهم من هذا التجلي والعرفان الخاص بدار الكرامة والراضون ، فإنهم لا يعتنون بتأويل مثل قوله - تعالى - في المتقين : تحيتهم يوم يلقونه سلام ( 33 : 44 ) وقوله في الكافرين : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( 83 : 15 ) كما يعتنون بتأويل قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( 75 : 22 ، 23 ) بأن النظر معناه الانتظار والرجاء ، وما رد به بعضهم على بعض في الآية يطلب من الكشاف والبيضاوي وحواشيهما وسائر كتب التفسير ، ومن كتب الكلام وشروح الأحاديث .


                          وكم بين حذاق الجدال تنازع وما بين عشاق الجمال تنازع

                          ومن غرائب جدلهم أن كلا منهم يستدل على مذهبه بطلب موسى - عليه السلام - رؤية ربه ، [ ص: 133 ] وقوله - تعالى - : لن تراني . . . الآية . فأهل السنة يستدلون على جواز الرؤية بسؤال الكليم إياها ، وعدم إنكار الباري تعالى عليه هذا السؤال كما أنكر على نوح - عليه السلام - سؤاله نجاة ولده الكافر بناء على أنه من أهله الذين وعده بنجاتهم - وبتعليق الرؤية على جائز وهو استقرار الجبل ، والمعتزلة يستدلون بالآية على عدم الرؤية بعدم إجابة الكليم إليها ، وتعليقها على ما علم الله أنه لا يكون .

                          وإذا كانت الآيات التي استدل بها كل فريق ليست نصا قاطعا في مذهبه ، ففي الأحاديث المتفق عليها ما هو نص قاطع لا يحتمل التأويل في الرؤية ، وتشبيهها برؤية البدر والشمس في الجلاء والظهور ، وكونها لا مضارة فيها ولا تضام ولا ازدحام ، وفي كتاب التوحيد من صحيح البخاري أحد عشر حديثا في ذلك ، وجمع ابن القيم في ( حادي الأرواح ) ما ورد في ذلك من الأحاديث فكان ثلاثين حديثا ، قال الحافظ ابن حجر عند إشارته إلى ذلك : وأكثرها جياد ، وزاد ابن القيم ما ورد عن الصحابة والتابعين وأئمة علماء الأمصار في ذلك ، وحملهم إياه على ظاهره مع تنزيه الله - تعالى - عن مشابهة المخلوقات ، ولكن بعض مثبتي الرؤية من أهل السنة اختلفوا في معناها ، فكان بعض ما قالوه تأويلا أبعد من تأويل المنكرين .

                          قال الحافظ في الكلام على تفسير وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة من شرح كتاب التوحيد من البخاري ما نصه ، واختلف من أثبت الرؤية في معناها ، فقال قوم : يحصل للرائي العلم بالله - تعالى - برؤية العين كما في غيره من المرئيات ، وهو على وفق قوله في حديث الباب : " كما ترون القمر " إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية ، وذلك أمر زائد على العلم . وقال بعضهم : إن المراد بالرؤية العلم ، وعبر عنها بعضهم بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة ؛ نسبة الأبصار إلى المرئيات . وقال بعضهم : رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم ، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول ا هـ .

                          ثم ذكر ما تعقب به من قال : إن المراد بالرؤية العلم ، وإنما قال في القول الآخر : إنه أقرب إلى الصواب لما فيه من التفويض وعدم التحديد ، وهذا المعنى هو الذي قال به الغزالي وأوضحه في كتاب " المحبة من الإحياء " بما يعهد من قرأ الإحياء من بيانه وفصاحته .

                          هذا وإن إحصاء ما ورد في هذا الباب مما استدل به على الرؤية إثباتا ونفيا من الآيات والأحاديث ، وسرد كلام المثبتين والنفاة وبيان الراجح منه والمرجوح يستغرق عدة أجزاء من المنار ، ولن يرضى ذلك منا أكثر القراء ، وجملة القول في المسألة أن الآيات القرآنية ليس فيها نص قاطع لا يحتمل التأويل ، ولكن بعض الأحاديث الصحيحة والحسنة صريحة في ذلك لا تحتمل التأويل ، والمرفوع منه مروي عن أكثر من عشرين [ ص: 134 ] صحابيا ، دع الموقوف والآثار ، ولم يرد في معارضتها شيء أصرح من حديث عائشة المتفق عليه عن مسروق قال : " قلت لعائشة - رضي الله عنها - يا أمتاه هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ! أين أنت من ثلاث ، من حدثكهن فقد كذب ، من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فقد كذب - وفي رواية : فقد أعظم على الله الفرية - ثم قرأت : لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ( 6 : 103 ) وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ( 42 : 51 ) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم قرأت : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ( 31 : 34 ) ومن حدثك أنه - أي النبي - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من الدين فقد كذب ، ثم قرأت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ( 5 : 67 ) الآية ، ولكن رأى جبريل في صورته مرتين " اهـ .

                          وقد ذكر النووي في شرح مسلم أن عائشة لم تنف وقوع الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها لذكرته وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذكرته من ظاهر الآية وقد خالفها غيرها من الصحابة إلخ ، وذكر الحافظ في الفتح أنه قال ذلك تبعا لابن خزيمة ذاهلا عما ورد في صحيح مسلم الذي شرحه ، وذكر أن في حديث مسروق عنده زيادة عما ذكرناه من لفظ البخاري وهي : قال مسروق " وكنت متكئا فجلست وقلت : ألم يقل الله ولقد رآه نزلة أخرى فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى عليه وسلم عن ذلك ، فقال : إنما هو جبريل " إلخ .

                          فعلم من هذا أن عائشة تنفي دلالة سورة النجم على رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه بالحديث المرفوع ، وتنفي جواز الرؤية مطلقا أو في هذه الحياة الدنيا بالاستدلال بقوله - تعالى - : لا تدركه الأبصار وقوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ويعارض هذا الاستدلال أنه ليس نصا في النفي حتى يرجح على الأحاديث الصريحة في الرواية ، وقد قال بها بعض علماء الصحابة ، وقال بعض العلماء : إن عائشة ليست أعلم عندنا من ابن عباس الذي أثبت الرؤية للنبي ليلة المعراج ، وفي هذا القول بحث ، فإن ابن عباس استنبط إثبات الرؤية في الدنيا من الآيات ، وقد انفرد بذلك دون سائر الصحابة . وأما من روي عنهم إثبات الرؤية في الآخرة فليس فيهم أحد يقال إنه أعلم من عائشة إلا والدها الصديق وعلي المرتضى وزيد بن ثابت ، وقد يذكر في طبقتها منهم العبادلة ، ولكن الحديث عن أبي بكر وزيد بن ثابت في هذا الباب ضعيف ، وعن علي موضوع ، حتى إن ما روي عنها نفسها فيه أقوى سندا . ويقول النفاة : لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج لما خفي نبأ ذلك عن عائشة مع ما علم من حرصها على العلم ، وسؤالها إياه عن آية النجم ، [ ص: 135 ] وقد يقول النفاة أيضا : لو كانت الرؤية في الآخرة عقيدة يطالب المسملون بالإيمان بها لما جهلتها عائشة ، ولكن هذا القول لا ينهض لمعارضة إثبات المثبتين لها بالأحاديث الصريحة ، وإنما قصاراه أن يعد دليلا على أن المسألة من أمور الآخرة التي كان يذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أحيانا لبعض الخواص إذ لا يضر العامة جهلها ، فلم يقصد أن تكون عقيدة يدعى إليها مع التوحيد .

                          وأحسن ما يجاب به عن استنباط عائشة وأقواه عند المثبتين أن يقال : إنها تريد به نفي الرؤية في الدنيا كما قال بذلك الجمهور ، ولا تقاس شئون البشر في الآخرة على شئونهم في الدنيا ؛ لأن لذلك العالم سننا ونواميس تخالف سنن هذا العالم ونواميسه حتى في الأمور المادية كالأكل والشرب والمأكول والمشروب ، فماء الجنة غير آسن فلا يتغير كماء الدنيا بما يخالطه أو يجاوره في مقره أو جوه ، وخمرها ليس فيها غول يغتال العقل ، ولا يصدعون عنها ولا ينزفون ، ولبنها لا يعتريه فساد ، ولا تخالطه جنة ( ميكروبات ) أمراض ، وكذلك فاكهتها وثمراتها هي على كونها أعلى وأشهى مما في الدنيا لا تفسد . قال ابن عباس : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، وكذلك أمزجة أهلها هي أصح وأسلم من أمزجة أهل الدنيا ، حتى إنهم يأكلون ويشربون فيكون هضمهم بالتبخر ورشح العرق ، ففي الحديث الصحيح أنه جشاء ورشح لها ريح المسك ، ولا عجب في ذلك فإن علماء العصر الذين يظنون أن في كوكب المريخ أحياء عقلاء كالبشر يجزمون بأنهم لا بد أن يكونوا أكبر منا أجساما وأسرع من الخيل العادية في حركتهم العادية ، هذا ، وعالم المريخ لا يعرف فيه من الحياة الروحانية العالية مثل ما ورد في حياة الجنة ، ولكن ما ذكره علماء العصر في شأنه يقرب تصور ما ورد في صفة الآخرة من الأذهان المقيدة بالمألوفات ، فإن بعض الناس إنما ينكرون أخبار الآخرة ؛ لأنها مخالفة لما جمدوا عليه من المألوفات ، ولو أنهم أخبروا بما اكتشف من أسرار الكون في هذا العصر كخواص الكهرباء والراديوم قبل أن يصير مشهودا مقطوعا به لما صدقوه . قال الله - عز وجل - في بيان جزاء المؤمنين القائمين بأعمال الإيمان حق القيام : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ( 32 : 17 ) ووضح ذلك رسوله في حديث قدسي رواه الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - " قال الله - عز وجل - : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " وروى أهل الكتاب مثل هذا عن سيدنا عيسى - صلى الله عليه وسلم - فإذا ثبت لنا أن كل ما ورد في دار الكرامة أعلى وأسمى مما في الدنيا حتى الأجسام وصفات الناس وغرائزهم ، وأنه لا يشارك ما في الدنيا إلا بالاسم ، الذي عبر عنه به لضرورة تقريب تلك المعاني الغيبية من الفهم ، فهل يصح بعد ذلك أن نعمد إلى أعلى ما هنالك من الشئون الإلهية المعنوية فنشبهه بشئون الدنيا ؟ فنجعل تجلي الرب - سبحانه وتعالى - لأولئك العباد المكرمين [ ص: 136 ] الذين رقاهم وكملهم وأهلهم لكمال معرفته تحيزا ومشابهة للخلق ؟ ونجعل ما يحصل لهم من ذلك التجلي من العلم الأكمل والمعرفة العليا التي تستغرق أرواحهم وجميع مشاعرهم الظاهرة والباطنة إدراكا لكنه الرب - عز وجل - ، وإحاطة علم به - تعالى عن ذلك - ثم نعذر أنفسنا على هذا الجهل بأن ذلك قد سمي رؤية ومعاينة ، ولا بد أن تكون الرؤية هنالك كرؤيتنا التي التي تعهدها هنا ؟ !

                          سبحان الله ! أيكون كل ما هنالك من أعيان المخلوقات وصفاتها وأحوالها مخالفا لما له اسمه منها هنا إلا ما يتعلق بشأن الخالق - عز وجل - ، فهو الذي يجب أن يكون مشابها لشئون المخلوقين بعضهم مع بعض ؟ أهذا هو المذهب الذي يدعي أصحابه اتباع المعقول ، ويسخرون من أهل السنة بزعمهم أنهم جمدوا على بعض أحاديث الآحاد من المنقول ؟ ! وهم الذين قد جمدوا على ما دون ذلك من الألفاظ العربية التي استعملت في صفات الباري تعالى وشئونه وأخبار عالم الغيب ، فتراهم يصرفونها عن معانيها ، ويعطلون مدلولاتها المقصودة ؛ لتوهمهم أنها لا تكون صحيحة إلا إذا كانت مدلولاتها في عالم الغيب كمدلولاتها في هذا العالم من كل وجه . ثم تحكموا فأثبتوا بعض صفات البارئ تعالى بدون تأويل كالعلم والقدرة والإرادة ، وهذا عين التشبيه ، وأولوا أكثرها كالكلام والرحمة والمحبة والغضب والرضاء والعلو والوجه واليدين إلخ ، وهذا عين التعطيل - وأهل السنة يثبتون له تعالى كل ما أثبته لنفسه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وينزهونه فيه كله عن مشابهة خلقه ، ولا يرون فرقا بين العلم والرحمة والكلام ، فكلها من صفات الكمال الثابتة له مع التنزيه - فعلمه ليس كعلم البشر منتزعا من صور المعلومات بالحس أو الفكر - ، وكلامه ليس كيفية عرضية يحصل بتموج الهواء بتأثير الصوت الذي يخرج من الفم - وكذلك سائر صفاته وشئونه تعالى . فتجليه لخواص خلقه في دار كرامته ليس كظهور بعضهم لبعض ، وما يحصل لهم من رؤيته ومعرفته وسماع كلامه لا يشابه ما يكون من بعضهم لبعض .

                          وإذا كنا قد عرفنا بالمشاهدة في عالم الحس أن إيقاد مصباح زيت الزيتون أو زيت البترول لا يشبه إيقاد مصباح الكهرباء بوجه من الوجوه ، ولا يشترط في الثاني ما يشترط في الأول - ونجزم بأن هذا الفرق لا يمكن أن يتصوره من لم يعرف الكهرباء ألبتة - فيجب علينا ألا نستغرب ما هو أبعد من هذا الفرق بين عالم الغيب والشهادة في اختلاف الكيفية لحقيقة واحدة كالرؤية ، ومن كان له حظ من معرفة الله - تعالى - في الدنيا لا يحتاج إلى الأمثال ، وحسب المحروم منها أن ينتفع بالأمثال وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ( 29 : 43 ) .

                          ( انتهت الفتوى )

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية