الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الذين يتبعون الرسول النبي الأمي فصل الاسم الموصول هنا ؛ لأنه بيان مستأنف للموصول الأخير أو للموصولين اللذين قبله معا ، وهم الذين يتقون ويؤتون الزكاة ، والذين يؤمنون بالآيات ، ولو وصله فقال : " والذين يتبعون الرسول النبي الأمي " إلخ . لكان مغايرا لهما في الماصدق في المفهوم بأن يراد بالأخير من يدركون بعثة الرسول النبي الأمي ويتبعونه بالفعل في زمنه [ ص: 194 ] وبعد زمنه ، ويراد بمن قبلهم من يصدق عليهم معنى صلة الموصولين في زمن موسى ، وما بعده إلى زمن محمد - عليهما السلام - ، ومعنى الفصل على الوجه الأخير اتحاد الموصولات الثلاثة في المفهوم والماصدق جميعا ، والمعنى : أن كتابة الرحمة كتبة خاصة هي للمتصفين بما دلت عليه صلات الموصولات الثلاثة ، وإنما هم الذين يتبعون الرسول الموصوف بأنه النبي الأمي نسبة إلى الأم ، والمراد به الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وكان أهل الكتاب يسمون العرب بالأميين ، ولعله كان لقبا لأهل الحجاز ومن جاورهم دون أهل اليمن . لكن ظاهر قوله - تعالى - في الخونة من اليهود ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ( 3 : 75 ) العموم وليس بنص فيه ، وقال - تعالى - : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ( 62 : 2 ) ولم ينقل أن الله - تعالى - بعث نبيا أميا غير نبينا - صلى الله عليه وسلم - فهو وصف خاص لا يشارك محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيه أحد من النبيين ، والأمية آية من أكبر آيات نبوته ، فإنه جاء بعد النبوة بأعلى العلوم النافعة ، وهي ما يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم وأحكامهم ، وعمل بها فكان لها من التأثير في العالم ما لم يكن ولن يكون لغيره من خلق الله ، وتعريف الرسول والنبي الموصوف بالأمية كلاهما للعهد كما يعلم مما سنبينه من بشارات الأنبياء بنبينا - صلى الله عليه وسلم - والرسول في اصطلاح الشرع أخص من النبي فكل رسول نبي ، وما كل نبي رسول ؛ ولذلك جعل بعض المفسرين نكتة تقديم الرسول على النبي هنا كونه أهم وأشرف أو أنهما ذكرا هنا بمعناهما اللغوي كقوله : وكان رسولا نبيا وما أشرنا إليه من نكتة التقديم أظهر ، وهو النبي الأمي وصف مميز للرسول الذي يجب على كل أحد اتباعه متى بعث ، وأن الرسول هو المعروف الذي نزل فيه وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ( 3 : 81 ) إلى آخر آيته المعروفة في سورة آل عمران .

                          والنبي في اللغة ( فعيل ) من مادة النبأ بمعنى الخبر المهم العظيم الشأن ، أو بمعنى الارتفاع وعلو الشأن والأول أظهر ، وأكثر العرب لا تهمزه بل نقل أنه لم يهمزه إلا أهل مكة ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر على رجل قال له : يا نبيء الله ، وأما في الاصطلاح ؛ فالنبي من أوحى الله إليه ، وأنبأه بما لم يكن يعلم بكسبه من خبر أو حكم يعلم به علما ضروريا أنه من الله - عز وجل - ، والرسول نبي أمره الله - تعالى - بتبليغ شرع ودعوة دين وبإقامته بالعمل ، ولا يشترط في الوحي إليه أن يكون كتابا يقرأ وينشر ، ولا شرعا جديدا يعمل به ويحكم بين الناس [ ص: 195 ] بل قد يكون تابعا لشرع غيره كالرسل من بني إسرائيل كانوا متبعين لشريعة التوراة عملا وحكما بين الناس كما قال - تعالى - : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ( 5 : 44 ) الآية .

                          وقد يكون ناسخا لبعضه كما نسخ عيسى - صلى الله عليه وسلم - بعض أحكام التوراة وأقر أكثرها ، كما يدل على ذلك مثل قوله - تعالى - حكاية لما خاطب به بني إسرائيل : ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ( 3 : 50 ) وسيرته المأثورة عن الإنجيليين الأربعة وغيرهم تدل على ذلك . ففيها أنه ما جاء لينقض الناموس ( أي : التوراة ) وإنما جاء ليتمم ، وأنه أحل لهم بعض ما حرم عليهم حتى ما دل عليه عموم ترك العمل يوم السبت فخصه بغير العمل الصالح من أمور الدنيا ، بل نرى فرق النصارى الرسميين بعد تكوين نظام الكنيسة قد تركوا ما عدا الوصايا العشر من شريعة التوراة ، واستبدلوا يوم الأحد بيوم السبت فيما حرمت الوصايا من العمل فيه ، وخالف الأكثرون وصية النهي عن اتخاذ الصور والتماثيل ، ولكن لا يستطيعون أن يأتوا بدليل على هذا من قول المسيح ولا من فعله .

                          وجملة القول أن الرسول أخص في عرف شرعنا من النبي ، فكل رسول نبي ولا عكس ، وإذا أطلق الرسول بالمعنى الذي يعم رسل الملائكة كان من هذا الوجه أعم من النبي ؛ لأن الله اصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس ، ولم يجعل فيهم أنبياء . فنبينا - صلى الله عليه وسلم - نبي رسول ، وجبريل - عليه السلام - رسول غير نبي ، وآدم - عليه السلام - نبي غير رسول كأكثر أنبياء إسرائيل ، وهذا على قول المحققين في نص حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما الناطق بأن نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وقد تقدم في الكلام على عدد الرسل من تفسير سورة الأنعام جواز تسميته رسولا في عرف بعض أهل الكلام ، وأنهم لهذا العرف عدوه من الرسل الذين تجب معرفة رسالتهم ، وأول هؤلاء حديث الشفاعة تأويلات تجدها هنالك .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية