الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بعد هذا أرشدهم إلى المخرج من أكبر شبهة لهم على الرسالة فقال عز وجل :

                          أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة الجنة بالكسر النوع الخاص من الجنون ، فهو اسم هيئة ، واسم للجن أيضا ، ولا يصح هنا إلا بتقدير مضاف ، أي من مس جنة - وقد حكى الله تعالى عن قوم نوح أول رسله إلى قوم مشركين أنهم اتهموه بالجنون فقالوا بعد قولهم إنه بشر مثلهم يريد أن يتفضل عليهم : إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين ( 23 : 25 ) وفي سورة القمر عنهم : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر ( 54 : 9 ) وفي سورة الشعراء حكاية عن فرعون - لعنه الله - في موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ( 26 : 27 ) وقال تعالى عنه في سورة الذاريات : فتولى بركنه وقال ساحر أو مجنون ( 51 : 39 ) ثم بين تعالى في هذه السورة أن جميع الكفار كانوا يقولون هذا القول في رسلهم فقال : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون ( 51 : 52 ، 53 ) .

                          وفي معنى آية الأعراف في خاتم النبيين والمرسلين عدة آيات ( منها ) قوله تعالى في كفار مكة من سورة المؤمنين : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ( 23 : 68 - 70 ) ومثله في سورة سبأ : وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أافترى على الله كذبا أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ( 34 : 7 ، 8 ) ثم قال فيها : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( 34 : 46 ) وهذه شبيهة بآية الأعراف . وفي أول سورة الحجر : وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين [ ص: 380 ] ( 15 : 6 ، 7 ) وفي سورة الصافات : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ( 37 : 36 ) وفي سورة الطور من الرد عليهم : فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ( 52 : 29 ) ومثله : ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( 68 : 1 ، 2 ) وفي آخرها : ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين ( 68 : 51 ، 52 ) وفي سورة التكوير بعد وصف ملك الوحي : وما صاحبكم بمجنون ( 81 : 22 ) .

                          روى أبناء حميد وجرير والمنذر وأبو حاتم وأبو الشيخ عن قتادة قال : ذكر لنا : " أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا : يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يهون ( أي يصيح ) حتى أصبح ، فأنزل الله : أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة .

                          قد علمنا بما سبق أن جميع الكفار كانوا يرمون رسلهم بالجنون ; لأنهم ادعوا أن الله تعالى خصهم برسالته ووحيه على كونهم بشرا كغيرهم لا يمتازون على سائر الناس بما يفوق أفق الإنسانية ، كما علم من نشأتهم ومعيشتهم ; ولأنهم ادعوا ما لا يعهد له عندهم نظير ، وليس مما تصل إليه عقولهم بالتفكير ، وهو أن الناس يبعثون بعد الموت والبلى خلقا جديدا ; ولأن كلا منهم كان يدعي أن الناس مخطئون وهو المصيب ، وضالون وهو المهتدي ، وخاسرون وهو المفلح ، إلا من اتبعه منهم - ; ولأنهم نهوا عن عبادة الآلهة ، وأنكروا أنها بالدعاء والتعظيم والنذور لها تقرب المتوسلين بها إلى الله زلفى ، وتشفع لهم عنده ، وأثبتوا أن الشفاعة لله وحده لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، من رضي له لمن رضي عنه فلا استقلال لهؤلاء الآلهة بالشفاعة عنده لمن توسل بهم - وشرعوا أنه لا يدعى مع الله أحد من ملك كريم ، ولا صالح عظيم ، فضلا عن صورهم وتماثيلهم المذكرة بهم وقبورهم المشرفة برفاتهم مع أن المذنب العاصي لا يليق به في رأي المشركين أن يدعو الله تعالى بغير واسطة ولا وسيلة لتدنسه بالذنوب ، فيحتاج إلى من يقربه إليه من أولئك الطاهرين ، وشبهتهم أن الملوك العظام في الدنيا لا يدخل أحد عليهم إلا بإذن وزرائهم وحجابهم ، ومن الغريب أن هذه الشبهة الشركية لا تزال متسلسلة في جميع المشركين ، حتى من أشرك من أهل الكتاب والمسلمين ، الذين خالفوا نصوص الكتب الإلهية وسنة الرسل ، إلى أعمال الوثنيين ، ولا يرون بأسا في تشبيه رب العالمين وأرحم الراحمين ، بالملوك الظالمين المستبدين .

                          وأما معنى الآية فالاستفهام فيه للإنكار والتوبيخ ، وهو داخل على فعل حذف للعلم به من سياق القول كما تقدم في أمثاله ، والتقدير : أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في حاله من أول [ ص: 381 ] نشأته ، وفي حقيقة دعوته ، ودلائل رسالته ، وآيات وحدانية ربه ، وقدرته على إعادة الخلق كما بدأهم وحكمته في ذلك - فإن حذف معمول التفكر يؤذن بعموم ما يدل عليه المقام مما تقتضيه الحال كما هي القاعدة المعروفة في علم المعاني .

                          ألا فليتفكروا ; فالمقام مقام تفكر وتأمل إنهم إن تفكروا أوشك أن يعرفوا الحق ، وما الحق ما بصاحبهم من جنة جملة مستأنفة لبيان الحق في أمر الرسول نفيا وإثباتا ، فهي نافية لما رموه به من الجنون ، كقوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون وقوله : وما صاحبكم بمجنون ومثلها آية سبأ : ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة ; ولذلك ختمتا بنفي كل صفة عنه في موضوع رسالته إلا كونه منذرا مبلغا عن ربه ، فقال هنا : إن هو إلا نذير مبين الإنذار تعليم وإرشاد مقترن بالتخويف من مخالفته ، أي ليس بمجنون ، ليس إلا منذرا ناصحا ، ومبلغا عن الله مبينا ، ينذركم ما يحل بكم من عذاب الدنيا والآخرة إذا لم تستجيبوا له ، وقد دعاكم لما يحييكم في الدنيا بجمع كلمتكم ، وإصلاح أفرادكم ومجتمعكم ، والسيادة على غيركم ، ويحييكم في الآخرة بلقاء ربكم . وقال هنالك : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ( 34 : 46 ) .

                          وقد عبر عنه في هاتين الآيتين ، وفي آية التكوير بالصاحب لهم ; لتذكيرهم بأنهم يعرفونه من أول نشأته إلى أن تجاوز الأربعين من عمره ، فما عليهم إلا أن يتفكروا حق التفكر في سيرته الشريفة المعقولة; ليعلموا أن الشذوذ ومجافاة المعقول ليس من دأبه ، ولا مما عهد عنه ، وكذلك الكذب كما قال بعض زعمائهم من أهل مكة : إن محمدا لم يكذب قط على أحد من الناس أفيكذب على الله ؟ وقد قال تعالى في أولئك الزعماء : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ( 6 : 33 ) .

                          وقد بينا في تفسيرنا هذا شبهة المشركين على الرسل بكونهم بشرا مع الرد عليها كذلك شبهاتهم على البعث مع الرد عليها .

                          ولو تفكر مشركو مكة في نشأة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه وآدابه ، وما جربوا من أمانته وصدقه من صبوته إلى أن اكتهل ، ثم تفكروا فيما قام يدعوهم إليه من توحيد الله بعبادته وحده ، ومن كون حكمته في خلقه السماوات والأرض بالحق تقتضي تنزهه عن العبث ( ومنه ) أن يكون هذا الإنسان السميع البصير العاقل الباحث عن حقائق الأشياء من ماض وحاضر وآت ، وينتهي وجوده بالعدم المحض الذي هو في نفسه محال ثم لو تفكروا في سوء حالهم الدينية ( كعبادة الأصنام ) والأدبية والمدنية والاجتماعية وما [ ص: 382 ] دعاهم إليه من إصلاحها كلها ، لعلموا أن هذا الإصلاح الديني والأدبي والاجتماعي والسياسي لا يثمر إلا السيادة والسعادة ، وأنه لا يمكن أن يكون مصدره جنون من دعا إليه ، بل إذا كان فيه شيء غير معقول ، فهو أنه لا يمكن أن يكون هذا العلم العالي والإصلاح الكامل من رأي محمد بن عبد الله الأمي الناشئ بين الأميين ، ولا أن تكون هذه البلاغة المعجزة للبشر في أسلوب القرآن ونظمه من كسب محمد الذي بلغ الأربعين ، ولم ينظم قصيدة ، ولا ارتجل خطبة ، وأن هذه الحجج البالغة على كل ما يدعو إليه القرآن ، والبراهين العقلية والعلمية الكونية ، لا يتأتى أن تأتي فجأة من ذي عزلة لم يناظر ولم يفاخر ولم يجادل أحدا فيما مضى من عمره كمحمد بن عبد الله - فإذا تفكروا في هذا كله جزموا بأن هذا كله وحي من الله تعالى ألقاه في روعه ، ونزل من لدنه على روحه ، وعلموا أن استبعادهم لذلك جهل منهم ، فالله تعالى القادر على كل شيء يختص برحمته من يشاء ; لهذا حثهم على التفكر في هذا المقام من هذه السورة وغيرها ، وذكر بعدها كونه نذيرا مبينا ، ونذيرا بين يدي عذاب شديد .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية