الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          يجادلونك في الحق بعدما تبين قال بعض العلماء : إن هذه الآية نزلت في مجادلة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدين والتوحيد ، وهي بهم أليق ، ولكن ما قبلها وما بعدها في بيان حال المؤمنين ، وما كان من هفوات بعضهم التي محصهم الله بعدها يعين كونها فيهم وفاقا لأبي جعفر بن جرير فيه ، وفي رد ذلك القول ، ومشايعة ابن كثير له ، وذكر أن مجاهدا فسر الحق هنا بالقتال وكذا ابن إسحاق ، وعلل الجدال فيه بقوله : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم ، وبيان ذلك أن المسلمين كانوا في حال ضعف ، فكان من حكمة الله تعالى أن وعدهم الله أولا إحدى طائفتي قريش تكون على الإبهام ، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام ; لأنها كسب عظيم لا مشقة في إحرازه; لضعف حاميته ، فلما ظهر أنها فاتتهم ، وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما كان عند قريش من قوة وقربت منهم ، وتعين عليهم قتالها ، إذ تبين أنها هي الطائفة التي وعدهم الله تعالى إذ لم يبق غيرها ، صعب على بعضهم لقاؤها على قلتهم وكثرتها ، وضعفهم وقوتها ، وعدم استعدادهم للقتال كاستعدادها ، وطفقوا يعتذرون للنبي صلى الله عليه وسلم اعتذارات جدلية بأنهم لم يخرجوا إلا للعير ; لأنه لم يذكر لهم قتالا فيستعدوا له ، كأنهم يحاولون إثبات أن مراد الله تعالى بإحدى الطائفتين العير ، بدليل عدم أمرهم بالاستعداد للقتال ، ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدال فيه وجه ما - لا بأن يقال إن طائفة العير مراد الله تعالى فإنها نجت وذهبت من طريق سيف البحر ، ولو كانت هي المرادة لما نجت ، ولا بأن يقال إننا لم نعد للقتال عدته فلا يمكننا طلب الطائفة الأخرى فإنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر لوعد الله تعالى ، فلم يبق لجدالهم وجه إلا الجبن والخوف من القتال ; ولذلك قال : كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون أي: كأنهم من فرط جزعهم ورعبهم يساقون إلى الموت سوقا لا مهرب منه; لظهور أسبابه ، حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم ، وهي ما ذكرنا من التفاوت بين حالهم وحال المشركين في العدد والعدد والخيل والزاد ، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين الظفر بهم ، وهذا دليل قطعي لا يتخلف عند المؤمن الموقن ، وما تلك إلا أسباب عادية كثيرة التخلف كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ( 2 : 249 ) وهكذا أنجز الله وعده ، وكان الظفر التام للمؤمنين ، وقد بين تعالى ذلك كله بقوله : وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم تولى الله تعالى إقامة الحجة عليهم بالحق فيما جادلوا فيه رسوله بالباطل ، ووجه الخطاب إليهم بعد أن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم فقال : واذكروا إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين - العير أو النفير - أنها لكم ، وهذا التعبير [ ص: 500 ] آكد في الوعد من مثل : وإذ يعدكم الله أن إحدى الطائفتين لكم ; لأن هذا إثبات بعد إثبات ، إثبات للشيء في نفسه ، وإثبات له في بدله وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم أي: وتحبون وتتمنون أن الطائفة غير ذات الشوكة وهي العير تكون لكم ; لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا . والشوكة الحدة والقوة ، وأصلها واحدة الشوك شبهوا بها أسنة الرماح ، ثم أطلقوها تجوزا على كل حديد من السلاح ، فقالوا : شائك السلاح وشاكي السلاح . وإنما عبر عنها بهذا التعبير; للتعريض بكراهتهم للقتال ، وطمعهم في المال ، ويريد الله أن يحق الحق بكلماته أي: ويريد الله بوعده غير ما أردتم ، يريد أن يحق الحق الذي أراده بكلماته المنزلة على رسوله ، أي وعده لكم إحدى الطائفتين مبهمة وبيانها له معينة مع ضمان النصر له ويقطع دابر الكافرين المعاندين له من مشركي مكة وأعوانهم باستئصالهم شأفتهم ، ومحق قوتهم ، فإن دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ، ويكون من ورائهم ، ولن يصل إليه الهلاك إلا بهلاك من قبله من الجيش ، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة ، وما تخلل ذلك من نيلهم من المؤمنين في أحد وحنين فإنما كان تربية على ذنوب لهم اقترفوها كما قال تعالى في الأولى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ( 3 : 165 ) وكقوله تعالى : وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ( 3 : 141 ) وقال في الثانية : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا إلى قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ( 9 : 25 ، 26 ) إلخ .

                          قال في الكشاف : يعني أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفاسف الأمور ، وألا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم ، والله عز وجل يريد لكم معالي الأمور ، وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلو الكلمة ، والفوز في الدارين ، وشتان ما بين المرادين : ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة ، وكسر قوتهم بضعفكم ، وغلب كثرتهم بقلتكم ، وأعزكم ، وأذلهم ، وحصل لكم ما لا تعارض أدناه العير وما فيها .

                          ليحق الحق ويبطل الباطل أي: وعد بما وعد وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة ليحق الحق ، أي يقره ويثبته; لأنه الحق - وهو الإسلام - ويبطل الباطل أي يزيله ويمحقه - وهو الشرك - ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان من المشركين . وإحقاق الحق وإبطال الباطل لا يكون باستيلائهم على العير ، بل بقتل أئمة الكفر والطاغوت من صناديد قريش المعاندين الذين خرجوا إليكم من مكة ; ليستأصلوكم . وقد علم مما فسرنا به الحق في الآيتين أنه لا تكرار فيه ، فالحق الأول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر للمؤمنين ، ومحق الكافرين ، والثاني هو الإسلام ، وهو المقصد ، والأول وسيلة له . وهذا أظهر مما قاله الزمخشري وابن المنير .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية