الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          والأصل في المصارف أن أمهات المقاصد أمور ( منها ) إبقاء ناس لا يقدرون على شيء لزمانة أو لاحتياج مالهم أو بعده منهم . ( ومنها ) حفظ المدينة عن شر الكفار بسد الثغور ونفقات المقاتلة والسلاح والكراع . ( ومنها ) تدبير المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء ، وإقامة الحدود والحسبة . ( ومنها ) حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين .

                          [ ص: 13 ] ( ومنها ) منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك ، وأن البلاد على قسمين ، قسم تجرد لأهل الإسلام كالحجاز ، أو غلب عليه المسلمون ، وقسم أكثر أهله الكفار فغلب عليهم المسلمون بعنوة أو صلح . والقسم الثاني يحتاج إلى شيء كثير من جمع الرجال ، وإعداد آلات القتال ، ونصب القضاة والحرس والعمال ، والأول لا يحتاج إلى هذه الأشياء كاملة وافرة . وأراد الشرع أن يوزع بيت المال المجتمع في كل بلاد على ما يلائمها ، فجعل مصرف الزكاة والعشر ما يكون فيه كفاية المحتاجين أكثر من غيرها ، ومصرف الغنيمة والفيء ما يكون فيه إعداد المقاتلة ، وحفظ الملة ، وتدبير المدينة أكثر ، ولذلك جعل سهم اليتامى والمساكين والفقراء من الغنيمة والفيء أقل من سهمهم من الصدقات ، وسهم الغزاة منهما أكثر من سهمهم منها .

                          " ثم الغنيمة إنما تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب ، فلا تطيب قلوبهم إلا بأن يعطوا منها ، والنواميس الكلية المضروبة على كافة الناس لا بد فيها من النظر إلى حال عامة الناس ، ومن ضم الرغبة الطبيعية إلى الرغبة العقلية ، ولا يرغبون إلا بأن يكون هناك ما يجدونه بالقتال ، فلذلك كان أربعة أخماسها للغانمين . والفيء إنما يحصل بالرعب دون مباشرة القتال ، فلا يجب أن يصرف على ناس مخصوصين ، فكان حقه أن يقدم فيه الأهم فالأهم . والأصل في الخمس أنه كان المرباع عادة مستمرة في الجاهلية يأخذه رئيس القوم وعصبته ، فتمكن ذلك في علومهم ، وما كادوا يجدون في أنفسهم حرجا منه وفيه قال القائل :


                          وإن لنا المرباع من كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم

                          فشرع الله تعالى الخمس لحوائج المدينة والملة نحوا مما كان عندهم ، كما أنزل الآيات على الأنبياء عليهم السلام نحوا مما كان شائعا ذائعا فيهم . وكان المرباع لرئيس القوم وعصبته تنويها بشأنهم ، ولأنهم مشغولون بأمر العامة محتاجون إلى نفقات كثيرة ، فجعل الله الخمس لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه عليه السلام مشغول بأمر الناس لا يتفرغ أن يكتسب لأهله فوجب أن تكون نفقته في مال المسلمين ، ولأن النصرة حصلت بدعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرعب الذي أعطاه الله إياه فكان كحاضر الوقعة ، ولذوي القربى ؛ لأنهم أكثر الناس حمية للإسلام ، حيث اجتمع فيهم الحمية الدينية إلى الحمية النسبية فإنه لا فخر لهم إلا بعلو دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأن في ذلك تنويها بأهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلك مصلحة راجعة إلى الملة . وإذا كان العلماء والقراء يكون توقيرهم تنويها بالملة ، يجب أن يكون توقير ذوي القربى كذلك بالأولى ، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء [ ص: 14 ] واليتامى - وقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ، وعلى هذا فتخصيص هذه الخمسة بالذكر للاهتمام بشأنها والتوكيد ألا يتخذ الخمس والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جانب المحتاجين ، ولسد باب الظن السيئ بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرابته ، وإنما شرعت الأنفال والأرضاخ ؛ لأن الإنسان كثيرا ما لا يقدم على مهلكة إلا لشيء يطمع فيه ، وذلك ديدن وخلق للناس لا بد من رعايته ، وإنما جعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ؛ لأن غناء الفارس عن المسلمين أعظم ومؤنته أكثر ، وإن رأيت حال الجيوش لم تشك أن الفارس لا يطيب قلبه ، ولا تكفي مؤنته إذا جعلت جائزته دون ثلاثة أضعاف سهم الراجل ، لا يختلف فيه طوائف العرب والعجم على اختلاف أحوالهم وعاداتهم .

                          " قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ " لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأوصى بإخراج المشركين منها " .

                          ( أقول ) : عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الزمان دول وسجال ، فربما ضعف الإسلام ، وانتثر شمله ، فإن كان العدو في مثل هذا الوقت في بيضة الإسلام ومحتده أفضى ذلك إلى هتك حرمات الله وقطعها ، فأمر بإخراجهم من حوالي دار العلم ومحل بيت الله .

                          ( وأيضا ) المخالطة مع الكفار تفسد على الناس دينهم ، وتغير نفوسهم ، ولما لم يكن بد من المخالطة في الأقطار أمر بتنقية الحرمين منهم . ( وأيضا ) انكشف ( له ) ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يكون في آخر الزمان فقال : " إن الدين ليأرز إلى المدينة " الحديث ، ولا يتم ذلك إلا أن يكون هناك أحد من أهل سائر الأديان والله أعلم انتهى . من حجة الله البالغة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية