الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قال النافون : إن الحديث يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة ؛ لأنها لو كانت منها لذكرت في الحديث ، وهو استدلال سلبي لا يعارض القطعي المتواتر وهو إثباتها في المصحف وإجماع القراء على قراءتها عند البدء بالختمات ، وثبوت التواتر بذلك ، على أن عدم ذكرها في الحديث قد يكون لسبب اقتضى ذلك . ومما يخطر على البال بداهة : أنه كما اكتفى من قسمة الصلاة بالفاتحة دون سائر التلاوة والأذكار والأفعال اكتفى من الفاتحة بما لا يشاركها فيه غيرها من السور ، إذ البسملة آية من كل سورة غير ( براءة ) على التحقيق الذي يدل عليه خط المصحف ، وثم سبب آخر لعدم ذكر البسملة في القسمة ، وهو أنه ليس فيها إلا الثناء على الله تعالى بوصفه بالرحمة ، وهو معنى مكرر في الفاتحة وذكر في القسمة .

                          والعمدة في عدم المعارضة أن دلالة الحديث ظنية سلبية ، وإثبات البسملة إيجابي وقطعي كما تقدم ، وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة : مخالفة راويه لغيره من الثقات فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه . على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة .

                          واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة المرفوع عند أحمد وأصحاب السنن قال : " إن [ ص: 72 ] سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : " تبارك الذي بيده الملك " قالوا : وإنما هي ثلاثون بدون البسملة . وأجيب بمثل ما قلنا آنفا من أن عدد آيات السور باعتبار ما هو خاص بالسورة وهو ما دون البسملة . ويؤيده ما روي عن أبي هريرة من أن سورة الكوثر ثلاث آيات . وقد روى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أنس قال : " بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : نزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ) . وهذا الحديث ناطق بأن البسملة من سورة الكوثر مع عدم عدها من آياتها لما ذكرنا ، فكونها آية من الفاتحة أولى وهو أصح في حديث أبي هريرة في سورة الملك ؛ لأن البخاري أعله بأن عباسا الحشمي راويه لا يعرف سماعه من أبي هريرة .

                          واستدلوا بالأحاديث الواردة في عدم قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه لها في الصلاة وأصرحها قول عبد الله بن مغفل : " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع أبي بكر ، ومع عمر ومع عثمان . فلم أسمع أحدا منهم يقولها " يعني البسملة رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه عن ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول ، فقد كان له سبعة أولاد وهذه علة تمنع صحة الحديث . قالوا : وقد تفرد به الحريري وقيل : إنه قد اختلط بآخره . وقد يفسر بما ترى فيما قالوه في الحديث الذي بعده .

                          وفي معناه حديث أنس في إحدى الروايات قال : " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . رواه أحمد ومسلم . قال في المنتقى : وفي لفظ " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " . رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح . ولأحمد ومسلم : " صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها " . ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : " صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة قلت لقتادة : أنت سمعت من أنس ؟ قال : نعم نحن سألناه عنه . وللنسائي عن منصور بن زازان عن أنس قال : " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " اهـ .

                          [ ص: 73 ] قال الشوكاني في شرح الحديث : ورواية " فكانوا لا يجهرون " أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني ، والطحاوي والطبراني . وفي لفظ لابن خزيمة : " كانوا يسرون " - وقوله : " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " هذا متفق عليه . وإنما انفرد مسلم بزيادة : " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب وفسر بأن جماعة من أصحابشعبة رووه عنه به ، وجماعة رووه عنه بلفظ : " فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " . ثم نقل عن الحافظ أن بعضهم رواه باللفظين وقد خرج كل رواية .

                          أقول : وقد جمعوا بين الروايات بأن المراد بالاستفتاح بالحمد لله الاستفتاح بهذه السورة فقد صح التعبير عنها في حديث آخر بجملة : " الحمد لله " . وبأن عدم سماعها سببه عدم الجهر بها ، وقد يكون له سبب آخر وهو البعد عن أول الصف . ومن العادة أن يكون صوت القارئ خافتا في أول القراءة . وسبب ثالث وهو اشتغال المأموم عند السماع بالتحرم ودعاء الافتتاح .

                          وقد عورض وأعل حديث أنس على اضطراب متنه بما يأتي عنه من مخالفته له في صفة قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة ، قال : سألت أنس بن مالك : " أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بالحمد لله رب العالمين ، أو ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك فقلت : أكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلى في النعلين ؟ قال : نعم " . قالوا : وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع ، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال : - وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم : يجهر ، وقال بعضهم يخفت أ هـ .

                          أقول : ولم يختلف هؤلاء المصلون في صلاة واحدة ، بل في جميع الصلوات ، وسبب ذلك الغفلة والناس عرضة لها ، ولا سيما الغفلة عن أول صلاة الإمام . إذ يكون المأمومون مشغولين بمثل ما يشغله من الدخول فيها وقراءة دعاء الافتتاح كما تقدم آنفا .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية