الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الباب السادس

                          في السنن الإلهية في أفراد البشر وأممهم

                          وهي تدخل في علم النفس وعلم الاجتماع

                          ( السنة الأولى ) ما ثبت بالمشاهدة والاختبار من تفاوت البشر في الاستعداد للإيمان والكفر وفيهما ، وفي الاستعداد للخير والشر وفيهما ، وجزاء الله تعالى لهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة يجري بمقتضى هذا التفاوت . ومن شواهدها في هذه السورة ما وصف به المؤمنين الكاملين في الآيات 2 - 4 وما ذكره في الرابعة من درجاتهم عند ربهم في الآخرة ، وهي تابعة لدرجاتهم في الدنيا " راجع تفسيرها في ص495 وما بعدها ج 9 ط الهيئة " .

                          ومنها ما يقابل ذلك عن قرب وهو وصفه في الآيتين " 5 و6 " اللتين بعدهن من حال ضعفاء المؤمنين ، ومجادلتهم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحق بعد ما تبين ( فراجع تفسيرهما في ص497 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .

                          ( السنة الثانية ) ما ثبت بالاستقراء من كون الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والاختلال ، الذي قد يفضي إلى الزوال ، أو فقد الاستقلال . وكون هذا العقاب على الأمة بأسرها ، لا على مقترفي الظلم وحدهم منها ، قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ( 8 : 25 ) وذلك أن الفتن في الأمم والظلم الذي ينتشر فيها ، ولا يقوم من أفرادها وجماعاتها من يقاومه يعم فساده ، بخلاف ذنوب الأفراد غير العامة المنتشرة ، فالأمة في تكافلها كأعضاء الجسد الواحد ، فكما أن الجسد يتداعى ويتألم كله لما يصيب بعضه كذلك الأمم . وقد بينا في تفسير الآية أن الأصل في الفتنة هنا ما شأنه أن يقع بين الأمم من التنازع [ ص: 122 ] في مصالحها العامة من السيادة والملك أو الدين والشريعة ( ص530 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) ومثله كل ما له تأثير في تفرقها وضعفها كفشو الفسق والإسراف في الترف والنعيم المفسد للأخلاق ، وهو لا يصل إلى هذا الحد إلا بترك إنكار المنكر الذي تأثم به الأمة كلها ، وكل من هذا وذاك ثابت في وقائع التاريخ ، ومن الشواهد عليه في هذه السورة قوله تعالى : كدأب آل فرعون - إلى قوله : وكل كانوا ظالمين ( 54 ) وهو قد ورد شاهدا لسنة أخرى سيأتي بيانها .

                          ( السنتان : الثالثة والرابعة ) كون الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد ، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف والإفراط إذا لم تهذب بهداية الدين ، ولم تشذب بحسن التربية والتعليم ، قال تعالى : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم ( 8 : 28 ) وقد بينا وجوه ذلك في تفسير الآية ( ص536 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .

                          ( السنة الخامسة ) ما ثبت في الكتاب العزيز ، وأخبار التاريخ من عقاب كفار الأمم الجاحدين الذين عاندوا الرسل وهو قسمان : عقاب الذين عاجزوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية فلم يؤمنوا بها على توعدهم بالهلاك ، فأهلكهم الله تعالى بعذاب الاستئصال كما أوعدهم على ألسنة رسلهم ، وعقاب الذين عادوهم وقاتلوهم فأخزاهم الله ، ونصر رسله عليهم . وقد كان هذا مطردا وسماه الله تعالى سنة في قوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ( 8 : 38 ) .

                          وليعلم أن النوع الأول من هذين العقابين هو غير الذي بيناه في السنة الثانية ، فإن الذنب في تلك سبب طبيعي اجتماعي للعقاب ، وفي هذه ليس سببا طبيعيا بل وضعيا تشريعيا بمقتضى وعيد الله تعالى ، وقد كان الذنب واحدا - وهو تكذيب الرسل ومعاندتهم - والعقاب عليه مختلفا فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا ( 29 : 40 ) .

                          والفرق بين النوعين كالفرق بين الأمراض البدنية ، والمصائب الدنيوية ، وبين العقوبات الحكومية ، فإن الأولى : تحدث بسبب مخالفة نظام الفطرة ، وسنن حفظ الصحة فهي علة وسبب طبيعي لها ، وأما الثانية : وهي العقوبات المقررة في الشرائع والقوانين على جرائم الأفراد - كالحدود الشرعية والتعزير بالحبس أو الضرب أو التغريم بالمال على من قتل أو زنى أو سرق أو ضرب أو غصب - فهي وضعية تكليفية تقع بفعل منفذ الشرط والقانون ، ولو كانت أسبابا تكوينية طبيعية للعقاب الذي يحكم به القاضي ، وينفذه السلطان لوقع بدون حكم ، ولا تنفيذ منفذ ، وقد تكون سببا لعقاب طبيعي آخر غير عقاب الشرع والقانون ، [ ص: 123 ] بما تحدثه من الضرر في الصحة والفساد في الأمة ، فإن الله تعالى لم يحرم على الناس شيئا إلا لضرره ، حتى إذا ما كثرت وفشت فصارت ذنبا للأمة ترتب عليها ما تقدم بيانه في السنة الثانية من عقاب الأمة بفشو الفسق ، وترك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وقد بينا هذا الفرق وهذه السنن مرارا في هذا التفسير ، وقررنا أن عذاب الآخرة ينقسم إلى هذين القسمين أيضا . ( فيراجع في مواضعه بدلالة فهارس الأجزاء كلفظ جزاء وعذاب وعقاب وأمم ) .

                          وأما النوع الثاني من عقاب معاندي الرسل ، فهو يشبه عذاب الأمم على ظلمها وفسوقها من وجه واحد ، ويخالفه من وجهين : يشبهه من حيث إن أعداء الرسل ومقاتليهم كانوا دائما ظالمين لهم ولأنفسهم ؛ لأن الرسل ما جاءوهم إلا بالحق والعدل ، وما تنازع أهل الحق والعدل ، مع أهل الباطل والظلم ، إلا وكانت العاقبة للمتقين وهم القسم الأول ، فنصر الله تعالى لرسله والمؤمنين القائمين بحقوق الإيمان التي بيناها في مواضع من تفسير هذه السورة ، وغيرها كان الأصل الأصيل فيه أنه داخل في باب الأسباب الطبيعية الاجتماعية ، وسنة تنازع البقاء ورجحان الأمثل ، ويخالفه من حيث إن وجود الرسول في المؤمنين ضامن لالتزامهم الحق والعدل ، ومراعاة السنن العامة ، حتى إذا ما خالفوا وشذوا بنكوب السبيل مرة تابوا وآنابوا ، كما وقع من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوتي أحد وحنين ، ووقع ما هو أشد منه لبني إسرائيل مع موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام .

                          ويخالفه أيضا من حيث إن وجوده فيهم كان يكون سببا لتأييده تعالى إياهم بشيء من آياته كما وقع في غزوة بدر بإمدادهم بالملائكة يثبتون قلوبهم ، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، وبما كان من رميه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم بقبضة من التراب أصابت كل واحد منهم فأضعفت قلبه ، بل أطارت لبه ، وما كان من عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين في خروجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بدر ، وفي وعده إياهم إحدى الطائفتين أنها لهم على الإبهام ، وفي إنزاله المطر عليهم حيث انتفعوا به من دون الكفار - فإن هذه الأمور بجملتها كانت توفيق أقدار لأقدار في مصلحة المؤمنين فكانت عناية منه تعالى بهم ، أكثرها من طريق الأسباب الظاهرة التي لا يملكونها بكسبهم .

                          وزد على ذلك ما ورد من الأخبار الصحيحة في بعض الخوارج الكونية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ كإطعام الجيش الكثير من طعام قليل أعد لعدد قليل فبارك الله تعالى فيه ، وكنبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما أمده الله تعالى به من مادة الماء الموجودة في الهواء على خلاف السنة العامة في تكوين الماء المبينة في قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ( 24 : 43 ) ومثله آية ( 30 : 48 ) . [ ص: 124 ] ( السنة السادسة ) كون التقوى والحذر في الأعمال من فعل وترك في الشئون العامة والخاصة من اجتماعية وشخصية دينية أو دنيوية ، تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر والمصلحة والمفسدة ، فيجري في أعماله على مراعاة ذلك في ترجيح الحق والخير والمصلحة على ما يقابلهن ، إلا فيما عساه يعرض له من جهالة أو سهو أو نسيان لا يلبث أن يرجع عنه إذا ذكر أو تذكر . قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ( 8 : 29 ) فراجع تفسيرها وتحقيق ما تكون فيه التقوى من أنواعها ، وأنواع الفرقان الذي هو ثمرتها في ( ص537 - 540 ج 9 ط الهيئة ) .

                          ( السنة السابعة ) التمييز بين الخبيث والطيب من الأشخاص والأعمال كما نص في الآية 37 ، وفي معناها آيات أخرى تقدمت ، وذكرنا أرقامها وأرقام سورها في تفسيرها وقلنا فيه : إن هذا التميز بين الأمرين يوافق ما يسمى في هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي ، ورجحان أمثل الأمرين المتقابلين وغلب أفضل الفريقين المتنازعين أو بقاؤه .

                          ( السنة الثامنة ) كون تغير أحوال الأمم ، وتنقلها في الأطوار من نعم ونقم ، أثرا طبيعيا فطريا لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والملكات التي تطبعها في الأنفس العادات ، وتترتب عليها الأعمال ، والنص القطعي فيها قوله : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( 53 ) . وقد فصلنا القول في بيانها تفصيلا ( في أول هذا الجزء ) . ( السنة التاسعة ) كون الإثخان في الأرض ، واستقرار السلطان فيها بالقوة الكافية يقتضي اجتناب ما يعارضه ، ويحول دون حصوله وتحققه ، كاتخاذ الأسرى من الأعداء ومفاداتهم بالمال في حال الضعف . كما يأتي في القاعدة 22 من الباب السابع .

                          ( السنة العاشرة ) كون ولاية الأعداء من دون الأولياء من أعظم مثارات الفتنة والفساد في الأمة ، والاختلال والانحلال في الدولة ، كولاية المؤمنين في النصرة والقتال للكافرين الذي يوالي بعضهم بعضا على المؤمنين في الحروب ، ولا سيما التي مثارها الخلاف الديني ، وشواهد هذه السنة في التاريخ الإسلامي وغيره كثيرة جدا ، وهي التي أزالت الدول الإسلامية الكثيرة ، وآخرها الدولة العثمانية الجاهلة التي كانت تتداعى عليها الأمم الأوربية النصرانية فيتفقون على قتالها إلا عند تعارض مصالحهن فيها . فراجع أحكام الولاية في آخر هذه السورة من آية 72 - 75 والنص فيها قوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وتجد تفسيرها خاصة فيما سبق من هذا الجزء .

                          ( السنة الحادية عشرة ) ما ثبت بالقرآن والوجدان من كون الإنسان ذا قدرة وإرادة واختيار في أفعاله من إيمان وكفر وخير وشر وصلاح وفساد ، وكل ما ذكر في هذا الباب [ ص: 125 ] من سننه تعالى في جزاء الناس على أعمالهم ، وما ذكر في البابين اللذين قبله ، والباب الذي بعده من إسناد أفعالهم إليهم فهو مبني على هذه السنة ، وأما ما تقدم في الباب الأول من إسناد بعض أعمالهم إلى الله تعالى وتصرفه فيهم فهو بيان لسنته في خلقهم كذلك ، وعلى هذه القاعدة جرينا في إبطال عقيدة الجبر التي فتن بها أكثر الأشعرية ، وشواهده في هذه السورة وغيرها كثيرة ، راجع منه فيها تفسير : فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ( 17 ) ( الآية . في ص515 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) . وتفسير : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ( 24 ) في ص527 وما بعدها ج 9 ط الهيئة ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية