الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما يوم الحج اختلافهم في تعيين الأكبر ففيه ما رواه البخاري في تفسير إلا الذين عاهدتم من المشركين من رواية صالح بن كيسان عن ابن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن أخبره عن أبي هريرة أنه أخبره أن أبا بكر رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها قبل حجة الوداع يؤذن في الناس ألا يحجن بعد العام مشرك . ولا يطوفن بالبيت عريان ، فكان حميد يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر ، من أجل حديث أبي هريرة ، وتقدم الحديث في كتاب الجزية عن شعيب عن الزهري بلفظ : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر . وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر . فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج في حجة الوداع التي حج فيها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشرك اهـ .

                          قال الحافظ في الكلام على رواية صالح من الفتح بعد أن ذكر رواية شعيب ما نصه : وقوله : ويوم الحج الأكبر يوم النحر - هو قول حميد بن عبد الرحمن استنبطه من قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ( 3 ) ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر أبي بكر يوم النحر ، وسياق رواية شعيب يوهم أن ذلك مما نادى به أبو بكر ، وليس كذلك ، فقد تضافرت الروايات عن أبي هريرة بأن الذي كان ينادي به هو ومن معه من قبل أبي بكر شيئان : منع حج المشركين ، ومنع طواف العريان . وأن عليا أيضا كان ينادي بهما ، وكان يزيد : من كان له عهد فعهده إلى مدته ، وألا يدخل الجنة إلا مسلم . وكانت هذه الأخيرة كالتوطئة ، لئلا يحج البيت مشرك . وأما التي قبلها فهي التي اختص علي بتبليغها ، ولهذا قال العلماء : إن الحكمة في إرسال علي بعد أبي بكر أن عادة العرب جرت بألا ينقض العهد إلا من عقده أو من هو منه بسبيل من أهل بيته فأجراهم في ذلك على عادتهم ، ولهذا قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل من أهل بيتي . وروى أحمد والنسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال : كنت مع علي حين بعثه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى مكة بـ ( براءة ) ، فكنا ننادي ألا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهد فعهده إلى مدته ، ولا يحج بعد العام مشرك ، فكنت أنادي حتى صحل صوتي .

                          ثم قال الحافظ : وقوله : وإنما قيل ( الأكبر ) إلخ . في حديث ابن عمر عند أبي داود [ ص: 143 ] وأصله في هذا الصحيح رفعه : أي يوم هذا ؟ قالوا : هذا يوم النحر ، قال : " هذا يوم الحج الأكبر " .

                          واختلف في المراد بالحج الأصغر ، فالجمهور على أنه العمرة ، وصل ذلك عبد الرازق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين ، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي ، وعن مجاهد الحج الأكبر : القران ، والأصغر : الإفراد . وقيل : يوم الحج الأصغر يوم عرفة ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ؛ لأن فيه تتكمل بقية المناسك . وعن الثوري أيام الحج تسمى يوم الحج الأكبر كما يقال يوم الفتح ، وأيده السهيلي بأن عليا أمر بذلك في الأيام كلها ، وقيل : لأن أهل الجاهلية كانوا يقفون بعرفة وكانت قريش تقف بالمزدلفة ، فإذا كان صبيحة النحر وقف الجميع بالمزدلفة ، فقيل له الأكبر : لاجتماع الكل فيه ، وعن الحسن : سمي بذلك لاتفاق حج جميع الملل فيه . وروى الطبري من طريق أبي جحيفة وغيره أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة ، ومن طريق سعيد بن جبير أنه يوم النحر ، واحتج بأن يوم التاسع وهو يوم عرفة إذا انسلخ قبل الوقوف لم يفت الحج بخلاف العاشر ، فإن الليل إذا انسلخ قبل الوقوف فات ، وفي رواية الترمذي من حديث علي مرفوعا وموقوفا يوم الحج الأكبر يوم النحر ورجح الموقوف . وقوله : فنبذ أبو بكر إلخ . هو أيضا مرسل من قول حميد بن عبد الرحمن ، والمراد أن أبا بكر أفصح لهم بذلك ، وقيل : إنما لم يقتصر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على تبليغ أبي بكر عنه بـ ( براءة ) ؛ لأنها تضمنت مدح أبي بكر ، فأراد أن يسمعوها من غير أبي بكر ، وهذه غفلة من قائله حمله عليها ظنه أن المراد تبليغ ( براءة ) كلها ، وليس الأمر كذلك لما قدمناه ، وإنما أمر بتبليغه منها أوائلها فقط ، وقد قدمت حديث جابر وفيه : أن عليا قرأها حتى ختمها ، وطريق الجمع فيه ، واستدل به على أن حجة أبي بكر كانت في ذي الحجة على اختلاف المنقول عن مجاهد وعكرمة بن خالد ، وقد قدمت النقل عنها بذلك في المغازي ، ووجه الدلالة أن أبا هريرة قال : بعثني أبو بكر في تلك الحجة يوم النحر ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأن قول مجاهد إن ثبت فالمراد بيوم النحر الذي هو صبيحة يوم الوقوف سواء كان وقع في ذي القعدة أو في ذي الحجة . نعم ، روى ابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كانوا يجعلون عاما شهرا ، وعاما شهرين ، يعني : يحجون في شهر واحد مرتين في سنتين ، ثم يحجون في الثالث في شهر آخر غيره . قال : فلا يقع الحج في أيام الحج إلا في كل خمس وعشرين سنة . فلما كان حج [ ص: 144 ] أبي بكر وافق ذلك العام أشهر الحج فسماه الله الحج الأكبر انتهى كلام الحافظ في تلخيص الروايات والجمع بينها بحروفه .

                          وقد أورد ابن كثير روايات أخرى في يوم الحج الأكبر منها عدة أحاديث مرفوعة نقلها في تفسير ابن جرير وابن أبي حاتم ، لكنها ضعيفة لا أصل لشيء منها في الصحيح إلا حديث ابن عمر الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر فيما تقدم نقله عنه آنفا ، وقال : وهذا إسناد صحيح ، وأصله مخرج في الصحيح . وذكر حديثا آخر عن أبي الأحوص . ثم ذكر أقوالا أخرى شاذة منها : قول ابن سيرين ، وقد سئل عنه : كان يوما وافق فيه حج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحج أهل الوبر اهـ . أقول : وقد كان يوم عرفة عام حجة الوداع يوم الجمعة . والعوام يسمون كل عام يكون فيه الوقوف بعرفات يوم الجمعة بالحج الأكبر .

                          وأما الحديث الصحيح الذي أشاروا إليه فقد رواه البخاري تعليقا عن ابن عمر قال : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : " أي يوم هذا " ؟ قالوا : يوم النحر ، قال : " هذا يوم الحج الأكبر " ورواه أبو داود وابن ماجه موصولا عنه وسنده صحيح ، وهو القول الفصل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية