الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) وهو تعليل لشرعية القصاص وبيان لحكمته ، وقدم عليه تعليل العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده عناية به ، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه . وبيان الأسباب والحكم لوضع الأحكام العملية ، كإقامة البراهين والدلائل للمطالب العقلية ، بهذه يعرف الحق من الباطل ، وبتلك يعرف العدل وما يتفق مع المصالح ، وبذلك يكون الحكم أوقع في النفس وأبعث على المحافظة عليه ، وأدعى إلى الرغبة في العمل به - وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يسامى ، وعبارة لا تحاكى ، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن التي تعجز في التحدي فرسان البيان ، ومن دقائق البلاغة فيها أن جعل فيها الضد متضمنا لضده وهو الحياة في الإماتة التي هي القصاص ، وعرف القصاص ونكر الحياة للإشعار بأن في هذا الجنس من الحكم نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره ، ولا يجهل سره .

                          ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز ، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها ، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها ، وهي قولهم : القتل أنفى للقتل . وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان ، ويفصح به اللسان ; لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع . وقولهم : أكثروا القتل ليقل القتل . . وأجمعوا على أن كلمة ( ( القتل أنفى للقتل ) ) أبلغها ، وأين هي من كلمة الله العليا ، وحكمته المثلى ؟

                          قال الإمام الرازي : وبيان التفاوت من وجوه : أحدها أن قوله : ( ولكم في القصاص حياة ) أخصر من الكل ; لأن قوله : ( ولكم ) لا يدخل في هذا الباب إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، وإذا تأملت علمت أن قوله : ( في القصاص حياة ) أشد اختصارا من قولهم : القتل أنفى للقتل ; أي لأن حروفه أقل . ( وثانيها ) أن قولهم : القتل أنفى للقتل ، [ ص: 106 ] ظاهره يقتضي كون الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال . وقوله : ( في القصاص حياة ) ليس كذلك لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سببا لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سببا لنوع من أنواع الحياة . ( وثالثها ) أن قولهم فيه تكرير للفظ القتل وليس في الآية تكرير . ( ورابعها ) أن قولهم لا يفيد إلا الردع عن القتل ، والآية تفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما ، فهي أجمع للفوائد . ( وخامسها ) أن نفي القتل في قولهم مطلوب تبعا ; من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي فكان هذا أولى . ( وسادسها ) أن القتل ظلما قتل مع أنه لا يكون نافيا للقتل ، بل هو سبب لزيادة القتل ، وإنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، وأما الآية فهي صحيحة ظاهرا وتقديرا ; فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب . انتهى باختصار وتصرف يسيرين .

                          وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختصار أدق وزاد عليها نحوها فقال : ( الأول ) قلة الحروف فإن الملفوظ هنا - أي في الآية - عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة وهناك أربعة عشر حرفا . ( الثاني ) الاطراد ; إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل ، فإن القتل ظلما أدعى للقتل . ( الثالث ) ما في تنوين ( حياة ) من النوعية أو التعظيم . ( الرابع ) صنعة الطباق بين القصاص والحياة ، فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها . ( الخامس ) النص على ما هو المطلوب بالذات أعني ( ( الحياة ) ) فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته . ( السادس ) الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات . ( السابع ) الخلو عن التكرار مع التقارب ; فإنه لا يخلو عن استبشاع ولا يعد من رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا . ( الثامن ) عذوبة اللفظ وسلاسته ، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة ; إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام ، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام . ( التاسع ) عدم الاحتياج إلى الحيثية - أي التعليل - وقولهم يحتاج إليها . ( العاشر ) تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك ، وقولهم لا يشمله . ( الحادي عشر ) خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا . ( الثاني عشر ) اشتماله على ما يصلح للقتل وهو الحياة بخلاف قولهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وإنه لما يليق بهم . ( الثالث عشر ) خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون [ ص: 107 ] الشيء سببا لانتفاء نفسه وهو محال - إلى غير ذلك ، فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته . ا هـ .

                          وأقول : إن الآية على كونها أبلغ ، وكلمتها أوجز ، قد أفادت حكما لم تكن عليه العرب قبلها ، ولم يطلبه أحد من عقلائهم وبلغائهم ، وهو المساواة في العقوبة وبيان أن فيه الحياة الطيبة ، وصيانة الناس من اعتداء بعضهم على بعض . وأما أمرهم بالقتل ليقل القتل أو ينتفي فهو يصدق باعتداء قبيلة على قبيلة ، والإسراف في قتل رجالها لتضعف فلا تقدر على أخذ الثأر ، فيكون المعنى : إن قتلنا لعدونا إحياء لنا ، وتقليل أو نفي لقتله إيانا ، وأين هذا الظلم من ذلك العدل ؟ فالآية الحكيمة قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات ، وأن القصاص وسيلة من وسائلها ; لأن من علم أنه إذا قتل نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه ، والاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع ، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه ، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة ، ويوطن النفوس على قبول حكم المساواة إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما ، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم ، هذا وإن دول الإفرنج تجري على سنة عرب الجاهلية في جعل القتل لأعدائها وخصومها أنفى لقتلهم إياها ، وذلك شأنهم مع الضعفاء كالشعوب التي ابتليت باستيلائهم عليها باسم الاستعمار أو غيره من الأسماء ، فأين هي من عدل الإسلام ، ومساواته بين جميع الأنام ؟

                          قال تعالى بعد هذا البيان المتضمن للحكمة والبرهان : ( يا أولي الألباب ) فخص بالنداء أصحاب العقول الكاملة ، مع أن الخطاب عام للتنبيه على أن ذا اللب هو الذي يعرف قيمة الحياة والمحافظة عليها ، ويعرف ما تقوم به المصلحة العامة وما يتوسل به إليها ، وهو مرتبتان : القصاص وهو العدل ، والعفو وهو الفضل ، كأنه يقول : إن ذا اللب هو الذي يفقه سر هذا الحكم وما اشتمل عليه من الحكمة والمصلحة ، فعلى كل مكلف أن يستعمل عقله في فهم دقائق الأحكام ، وما فيها من المنفعة للأنام ، وهو يفيد أن من ينكر منفعة القصاص بعد هذا البيان ، فهو بلا لب ولا جنان . ولا رحمة ولا حنان . وقوله : ( لعلكم تتقون ) جعله ( الجلال ) تعليلا لشرع القصاص وقدر له ( ( شرع ) ) أي : لما كان في القصاص حياة لكم كتبناه عليكم وشرعناه لكم ، لعلكم تتقون الاعتداء ، وتكفون عن سفك الدماء .

                          وقال الأستاذ الإمام : إن هذا لا بأس به والشرعية مفهومة من الآية ، وإيجاز القرآن يقتضي عدم التصريح بها لأجل التعليل كما صرح به في الآية التي قبلها ( كتب عليكم ) ويمكن أن يستغنى عن تقدير ( ( شرع ) ) ويتعلق الرجاء بالظرف في قوله : [ ص: 108 ] ( ولكم في القصاص حياة ) أي : ثبتت لكم الحياة في القصاص لتعدكم وتهيئكم للتقوى والاحتراس من سفك الدماء ، وسائر ضروب الاعتداء ، إذ العاقل حريص على الحياة ولوع بالأخذ بوسائلها ، والاحتراس من غوائلها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية