الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          والمؤلفة قلوبهم أي : الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام أو التثبت [ ص: 427 ] فيه ، أو بكف شرهم عن المسلمين ، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم ، أو نصرهم على عدو لهم ، لا في تجارة وصناعة ونحوهما . فإن من يرى أن مخالفه في الدين مصدر نفع له يوشك أن يواده ، فإن لم يواده لم يحاده كالعدو الذي يخشى ضرره ولا يرجو نفعه .

                          وذكر الفقهاء أن المؤلفة قلوبهم قسمان : كفار ومسلمون . والكفار ضربان ، والمسلمون أربعة ، فمجموع الفريقين ستة ، وهذا بيانهم بالتفصيل والاختصار : ( الأول ) قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم ، واستشهدوا له بإعطاء أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما .

                          ( الثاني ) زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين ، مطاعون في أقوامهم يرجى بإعطائهم تثبتهم ، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره ، كالذين أعطاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العطايا الوافرة من غنائم هوازن ، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة الذين أسلموا فكان منهم المنافق ، ومنهم ضعيف الإيمان ، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم .

                          ( الثالث ) قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء ، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو ، وأقول : إن هذا العمل هو المرابطة ، وهؤلاء الفقهاء يدخلونها في سهم سبيل الله كالغزو المقصود منها . وأولى منهم بالتأليف في زماننا قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ؛ ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم ، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين ، وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما للمؤلفة قلوبهم من المسلمين ، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام ، ومنهم من يؤلفونه ؛ لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية ، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها ! ! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم ؟ .

                          ( الرابع ) قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا ، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين وهذا سبب جزئي قاصر ، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة .

                          ( الخامس ) من الكفار من يرجى إيمانه بتأليفه واستمالته ، كصفوان بن أمية الذي وهب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له الأمان يوم فتح مكة ، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه ، وكان غائبا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم ، وكان النبي صلى الله [ ص: 428 ] عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين . وهو القائل يومئذ : لأن يرثني رجل من قريش أحب إلي من أن يرثني رجل من هوازن . وقد أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبلا كثيرا محملة كانت في واد ، فقال : هذا عطاء من لا يخشى الفقر ، وروى مسلم والترمذي من طريق سعيد بن المسيب عنه قال : والله لقد أعطاني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي . وأخرج الترمذي من طريق معروف بن خربوذ قال : كان صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون . وقال ابن سعد : كان أحد المطعمين في الجاهلية والفصحاء ، وقد حسن إسلامه .

                          ( السادس ) من الكفار من يخشى شره فيرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه ، قال ابن عباس : إن قوما كانوا يأتون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أعطاهم مدحوا الإسلام ، وقالوا : هذا دين حسن . وإن منعهم ذموا وعابوا . وكان من هؤلاء سفيان بن حرب وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، الذين تقدم في قسمة غنائم هوازن من تفسير هذه السورة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل .

                          وعن أبي حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله للإسلام وهو قول للشافعي . واحتجوا بما روي أن مشركا جاء يلتمس من عمر مالا فلم يعطه وقال : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( 18 : 29 ) ولا حجة في هذا ، بل قد يكون في غير الموضوع ؛ إذ لم يقل أحد أن كل مشرك يعطى لتأليفه . وقالوا أيضا : إن عيينة بن حصن والأقرع بن حابس جاءا يطلبان من أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أرضا ، فكتب لهما خطا بذلك ، فمزقه عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : هذا شيء كان يعطيكموه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأليفا لكم ، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغني عنكم ، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا : أنت الخليفة أم عمر ؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر - فقال هو إن شاء . فقد وافقه ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة . وهذه الرواية لا تقتضي سقوط هذا السهم ، وإنما ذلك اجتهاد من عمر بأنه ليس من المصلحة استمرار هذا التأليف لهذين الرجلين الطامعين وأمثالهما ، بعد الأمن من ضرر ارتدادهما لو ارتدا ؛ لأن الإسلام قد ثبت في أقوامهما حتى إنه لا يترتب على قتلهما - لو ارتدا - أدنى فتنة .

                          واحتجوا أيضا بأنه لم ينقل أن عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا الصنف ، وهذا لا يدل على سقوط السهم ، وإنما هو خبر سلبي لا حجة فيه ، وقصارى ما يدل عليه أن الخليفتين لم يعرض لهما حاجة إلى تأليف أحد من الكفار لذلك . وهو لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الأئمة بعدهما .

                          [ ص: 429 ] وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء ، والسكوت عليه من سائر الصحابة ، فدعواه ممنوعة . لا الإجماع بثابت بما ذكر ، ولا كونه حجة على نسخ الكتاب والسنة صحيحا ، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره هنا .

                          وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار : وقد ذهب إلى جواز التأليف العترة والجبائي والبلخي وابن بشر ، وقال الشافعي : لا نتألف كافرا ، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف . وقال أبو حنيفة وأصحابه : قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته ، واستدلوا على ذلك بامتناع أبي بكر من إعطاء أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس . والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه ، فإن كان في زمن الإمام قوة لا يطيعونه إلا للدنيا ، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب ، فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير ؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة اهـ .

                          وهذا هو الحق في جملته ، وإنما يجيء الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق ، ومقدار الذي يعطى من الصدقات ومن الغنائم إن وجدت وغيرها من أموال المصالح ، والواجب فيه الأخذ برأي أهل الشورى كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتهادية . وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر ، فإن هذا لا يطرد ، بل الأصل فيه ترجيح الضررين وخير المصلحتين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية