الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( 1 ) مصارف الصدقات قسمان : أشخاص ومصالح : علم مما تقدم أن مصارف الصدقات في الآية قسمان ( أحدهما ) أصناف من الناس يملكونها تمليكا بالوصف المقتضي للتمليك ، وعبر عنه بلام الملك . ( وثانيهما ) مصالح عامة اجتماعية ودولية لا يقصد بها أشخاص يملكونها بصفة قائمة فيهم وعبر عنه بـ " في " الظرفية وهو قوله تعالى : وفي الرقاب وقوله : وفي سبيل الله والأول الفقراء والمساكين يستحقونها بفقرهم ما داموا فقراء - والعاملون عليها يستحقونها بعملهم وإن كانوا أغنياء ، والمؤلفة قلوبهم يستحقها منهم من ثبت عند أولي الأمر الحاجة إلى تأليفه ، والغارمون بقدر ما يخرجهم من غرمهم ، وابن السبيل بقدر ما يساعده على العود إلى أهله وماله ، وهذا في معنى الفقير ، ولكن قد يكون فقره عارضا بسبب السياحة والقسم الثاني : فك الرقاب وتحريرها ، وهي مصلحة عامة في الإسلام ، وليس فيها تمليك لأشخاص معينين بوصف فيها - وفي سبيل الله وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة ، وأولها وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح ، وأغذية الجند ، وأدوات لنقل وتجهيز الغزاة ، وتقدم مثله عن محمد بن عبد الحكم ، ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك ؛ لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به ، بل يستعمله في سبيل الله ، ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله ، بخلاف الفقير والعامل عليها والغارم والمؤلف وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا بعد فقد الصفة التي أخذوه بها ، ويدخل في عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية ، وكذا الخيرية العامة ، وإشراع الطرق وتعبيدها ، ومد الخطوط الحديدية العسكرية لا التجارية ، ومنها بناء البوارج المدرعة والمناطيد والطيارات الحربية والحصون والخنادق .

                          ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا إعداد الدعاة إلى الإسلام ، وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي كما يفعله الكفار في نشر دينهم ، وقد [ ص: 437 ] بينا تفصيل هذه المصلحة العظيمة في تفسير قوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ( 3 : 104 ) الآية . ويدخل فيه النفقة على المدارس للعلوم الشرعية وغيرهم مما تقوم به المصلحة العامة ، وفي هذه الحالة يعطى منها معلمو هذه المدارس ما داموا يؤدون وظائفهم المشروعة التي ينقطعون بها عن كسب آخر ، ولا يعطى عالم غني لأجل علمه ، وإن كان يفيد الناس به .

                          والترتيب في هذه الأصناف لبيان الأحق فالأحق للصدقات ، على القاعدة الغالبة عند فصحاء العرب في تقديم الأهم فالأهم على ما دونه في الموضوع ، وإن كانت الواو لا تفيد الترتيب في معطوفاتها ، فالفقراء والمساكين أحق من غيرهم بهذه الصدقات ؛ لأنهم المقصودون بها أولا وبالذات ، بدليل الحديث المتقدم : " تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم " ويليهم العاملون عليها ؛ لأنهم هم الذين يقومون بجمعها وحفظها ، وقال بعض الفقهاء : إنهم أول من يعطى عملته منها إلا إذا كان لهم رواتب من بيت المال أو رأى ولي الأمر إعطاءهم عمالتهم منه ، ويليهم المؤلفة قلوبهم عند الحاجة إليهم ، وهم يعطون من الغنائم أيضا ، فالحاجة إليهم عارضة لا كالعاملين على الصدقات ، ويليهم مصلحة فك الرقاب والعتق وهي المصالح من الاجتماعية الكمالية لا الضرورية ، فإن تأخيرها لا يرهق معوزا كالفقير ، ولا يضيع مصلحة تشتد الحاجة إليها كتأليف القلوب ، ويليها مساعدة الغارم على الخروج من غرمه ، فهو دون مساعدة الرقيق على الخروج من رقه ، ويليهم المصلحة العامة المعبر عنها بسبيل الله ، فهي من قبيل العام الذي يراد به ما وراء ذلك الخاص مما قبلها الذي تكثر الحاجة إليه ، وأما ابن السبيل فهو دون جميع ما قبله لندرة وجوده .

                          ولولا إرادة الترتيب لذكر المستحقون من الأفراد بأوصافهم التي اشتقت منها ألقابهم نسقا ( وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون وابن السبيل ) ثم ذكرت بعدهم المصالح التي أدخل عليها " في " وهي الرقاب وسبيل الله .

                          وليس المراد من هذا الترتيب أن كل صنف يحجب ما دونه حجب حرمان أو نقصان كترتيب الوارثين ، وإنما يظهر اعتباره في حال قلة المال ، فالمتجه حينئذ أنه يقدم فيه الأهم وهو الفقراء والمساكين ، ولكن بعد سهم العاملين عليها إن كانوا هم الذين جمعوها ، ولم ير الإمام إعطاءهم عمالتهم من بيت المال ، وسيأتي ذكر خلاف العلماء في قسمتها في المسألة الثالثة من هذه المباحث .

                          هذا ما نفهمه من الآية عند قراءتها ، ولكننا بعد أن كتبنا ما فهمناه ، راجعنا الكشاف الذي [ ص: 438 ] يعنى بهذه النكت الدقيقة ، فرأينا له رأيا آخر في نكتة اختلاف التعبير من حيث تقسيم الأصناف إلى القسمين يخالف رأينا من بعض الوجوه قال : ( فإن قلت ) لم عدل عن " اللام " إلى " في " في الأربعة الأخيرة ؟ ( قلت ) للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن " في " للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبا . وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق والأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ ، ولجمع الغازي الفقير ، أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال . وتكرير " في " في قوله : وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين اهـ .

                          وقد ذكر أحمد بن المنير في ( الانتصاف ) نكتة أخرى هي أقرب إلى ما قلناه قال :

                          وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، ذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول " اللام " لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم ، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به . وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم . وأما سبيل الله فواضح فيه ذلك ، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا ، وعطفه على المجرور باللام ممكن ، ولكن على القريب منه أقرب والله أعلم ، وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه الوزير استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك على أن الغرض بيان المصرف ، " واللام لذلك لام الملك ، فيقول متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فيتعين تقديره ، فأما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء كقول الشافعي ، لكن الأول متعين ؛ لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا يصح تعلق اللام به وفي معا فيصح أن تقول : هذا الشيء مصروف في كذا ، ولكذا بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه لا يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى " في " يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها ، فتقديره من اللام عام التعلق شامل الصحة متعين ، والله الموفق اهـ .

                          وما قاله ابن المنير يوافق في الجملة ، إلا أنه جعل سهم الغارمين من المصالح وهو محتمل ، وما قلناه فيهم أظهر ؛ لأنه لا يشترط أن يعطى كل ما يأخذونه لأرباب ديونهم [ ص: 439 ] ولا سيما الغارمين لإصلاح ذات البين فما يعطونه مساعدة على ما يعطون غيرهم أو تعويض عما أعطوا ، وأجاز الوجهين في ابن السبيل ، وضعفه ظاهر فهو ممن يملكون سهمهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية