الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين البائعين أنفسهم وأموالهم لله تعالى بجنته ودار كرامته ، فقال : ( التائبون ) أي هم التائبون الكاملون في توبتهم وهي الرجوع إلى الله تعالى عن كل ما يبعد عن مرضاته ، وتختلف باختلاف أحوال أهلها ، فتوبة الكفار الذين يدخلون في الإسلام هي الرجوع عن الكفر الذي كانوا عليه من شرك وغيره كما تقدم في قوله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) ( 9 : 11 ) وتوبة المنافق من النفاق وتقدم ذكرها في هذه السورة أيضا ، وتوبة العاصي من المعصية ، ومنه توبة من تخلف عن غزوة تبوك من المؤمنين ، وتقدم قريبا ذكر من تاب منهم ومن أرجى أمره ، وتوبة المقصر في شيء من البر وعمل الخير إنما تكون في التشمير فيه والاستزادة منه ، وتوبة من يغفل عن ربه إنما تكون في الإكثار من ذكره وشكره ، وسيأتي ذكر توبة الله تعالى على الجميع في الآيتين ( 117 و 118 ) .

                          ( العابدون ) لله ربهم وحده مخلصين له الدين في جميع عباداتهم في عامة أوقاتهم ، لا يتوجهون إلى غيره بدعاء ولا استعانة ، ولا يتقربون إلى سواه بعمل مما يقصد به القربة ومثوبة الآخرة .

                          ( الحامدون ) لله ربهم في السراء والضراء بالثناء عليه بلفظ الحمد وغيره من الذكر المشروع الدال على الرضاء منه تعالى . ومهما يصب الإنسان من مصائب الدنيا فإنه يبقى له من النعم فيها وفي الدين بل له من اللطف الإلهي في نفس المصائب ما يجب عليه أن يحمد الله ويشكره عليه ( وتقدم بيان الحمد والعبادة في تفسير سورة الفاتحة وغيرها ) .

                          ( السائحون ) في الأرض يجوبون الأقطار لغرض صحيح من علم أو عمل كالجهاد في سبيل الله ، وروي عن عطاء ، أو للهجرة حيث تشرع الهجرة ، وروي عن عبد الرحمن بن زيد ، قال : السائحون هم المهاجرون ، ليس في أمة محمد سياحة إلا الهجرة . أو لطلب العلم النافع للسائح في دينه أو دنياه أو النافع لقومه وأمته ، وروي عن عكرمة وخصه بعضهم بطلب الحديث ( لأنهم كانوا يسافرون من مصر إلى أخرى للرواية ) أو للنظر في خلق الله وأحوال الشعوب والأمم للاعتبار والاستبصار ومعرفة سنن الله تعالى وحكمه وآياته ، وهذا ما تدل عليه الآيات المتعددة في الحث على السير في الأرض كما بيناه في الأصلين ( 13 و 14 من الأصول العلمية التي استنبطناها من سورة الأنعام ص 255 ج 8 ط الهيئة ) .

                          وروي عن عبد الله بن مسعود أن المراد بالسائحين الصائمون ، وقاله في تفسير ( سائحات ) من سورة التحريم ، وتعلق به مصنفو التفاسير لاستبعادهم مدح الله تعالى النساء بالسياحة في الأرض ، وإنما يحظر في الإسلام سفر المرأة منفردة دون زوجها أو أحد محارمها ، وأما إذا كانت تسيح مع الزوج والمحرم حيث يسيح لغرض صحيح من علم نافع أو عمل صالح [ ص: 43 ] أو طلب الصحة أو الرزق فلا إشكال في مدحها بالسياحة بل ينبغي اشتراك الرجال والنساء في جميع أعمال الحياة النافعة .

                          وأزيد على ذلك السياحة والسفر لطلب الرزق الحلال من تجارة وغيرها . وإذا صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يصحبون نساءهم في غزواتهم عند الإمكان ، وهن غير مكلفات بالقتال ، بل يساعدن عليه بتهيئة الطعام والشراب ، وتضميد الجراح وغير ذلك كما تقدم في تفسير ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ) ( 9 : 71 ) فلأن يصحبنهم في سائر الأسفار أولى ، وفي سفر المرأة مع زوجها إحصان له ولها ، فهو مانع للمسلم من التطلع في السفر إلى غيرها .

                          وعلل سفيان بن عيينة تفسير السائحين بالصائمين بأن الصائم يترك اللذات كلها كالسائح للتعبد ، ومثله أو منه قول الأزهري : يسمى الصائم سائحا لأن الذي يسيح في الأرض متعبدا لا يحمل زادا فكان ممسكا عن الأكل . ولهذا التعليل خص بعضهم إطلاق وصف السائحين على الصائمين بالذين يديمون الصيام ، وأخذ بعضهم بظاهر اللفظ ، فقال : يكفي في صحة الوصف صيام الفرض ، وكل ذلك ضعيف .

                          والصوفية يخصون السائحين الممدوحين بالذين يهيمون في الأرض لتربية إرادتهم ، وتهذيب أنفسهم باحتمال المشاق ، والبعد عن مظان السمعة والرياء ; لجمع القلب على الرب عز وجل بالإخلاص في عبادته ، والتكمل في منازل معرفته ، كالسياحين من الأمم قبلهم ، وقد كان إطلاق السياحة بهذا المعنى ذائعا من قبل الإسلام ، حتى قال صاحب القاموس : السياحة : الذهاب في الأرض للعبادة ; ومنه سمي المسيح إلخ ، واعترضوه فيه فإنما هو عرف ليس من أصل اللغة ، وتقدم معنى السياحة اللغوي في تفسير قوله تعالى : ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) ( 9 : 2 ) وهو أول آية من هذه السورة ( ص 136 ج 10 ط الهيئة ) .

                          وقد حدث للمتصوفة بدع في السياحة كقصد مشاهد القبور المنسوبة إلى الأنبياء والصالحين للتبرك بها ، والاستمداد من أرواح من دفنوا فيها ، وكثير منهم يكون له هوى في التنقل من بلد إلى آخر فيظل هائما في الأسفار ، وينقطع بذلك عن الأعمال التي تنفع الناس وعن الزواج ، ويرتكب بعضهم فيها كثيرا من المنكرات ، ويكون لهم طمع في استجداء الناس ، والسؤال حرام إلا لضرورة ، والفقهاء ينكرون عليهم سياحتهم هذه .

                          قال ابن الجوزي : السياحة في الأرض لا لمقصود ولا إلى مكان معروف منهي عنها .

                          وقد روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ( لا رهبانية في الإسلام ولا تبتل ولا سياحة في الإسلام ) ) وقال الإمام أحمد : ما السياحة من الإسلام في شيء ، ولا من فعل النبيين [ ص: 44 ] والصالحين ; ولأن السفر يشتت القلب فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به ا هـ .

                          وأقول : روى ابن جرير من حديث أبي هريرة مرفوعا وموقوفا حديث ( السائحون هم الصائمون ) ولا يصح رفعه ، وروي عن عائشة وابن عباس ومجاهد وغيرهم من أقوالهم ، ومن مرسل عمرو بن دينار عن عبيد بن عميرة ، وروى أبو داود من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ائذن لي بالسياحة ؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ( إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله عز وجل ) ) قال الحافظ المنذري : القاسم هذا تكلم فيه غير واحد انتهى . أقول : منهم الإمام أحمد كان يقول فيما يروى عنه من المناكير : إنها من قبله ، ويقول بعضهم : إنها ممن روى عنه من الضعفاء ، لا منه ، وقال ابن حبان : كان يروي عن الصحابة المعضلات .

                          وللإمام الغزالي في كتاب السفر من الإحياء كلام نفيس في فوائد السياحة والاعتبار بآيات الله تعالى فيها لا يوجد في غيره مثله .

                          ( الراكعون الساجدون ) لله تعالى في صلواتهم . والصلاة تذكر تارة بلفظها ، وتارة ببعض أركانها كالقيام والركوع والسجود . وهذا الوصف يفيد التذكير بهذه الهيئة وتمثيلها للقارئ والسامع .

                          ( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) تقدم معنى هذا الأمر والنهي ومكانته من صفات المؤمنين في تفسير الآية ( 71 ) من هذه السورة ( ج 10 ط الهيئة ) . وهذه الصفة وما بعدها من الصفات المتعلقة بجماعة المؤمنين فيما يجب على بعضهم لبعض ، وكل ما قبلهما من صفات الأفراد .

                          ( والحافظون لحدود الله ) أي شرائعه وأحكامه التي حدد فيها ما يجب وما يحظر على المؤمنين من العمل بها ، وما يجب على أئمة المسلمين وأولي الأمر وأهل الحل والعقد منهم إقامتها وتنفيذها بالعمل في أفراد المسلمين وجماعتهم إذا أخلوا بما يجب عليهم من الحفظ لها ( وبشر المؤمنين ) أي وبشر أيها الرسول المؤمنين الموصوفين بهذه البضع الصفات ، ولم يذكر ما يبشرهم به لتعظيم شأنه وشموله لخير الدنيا وسعادة الآخرة .

                          ومن مباحث اللغة أن المعدودات تسرد بغير عطف ، وإنما عطف النهي عن المنكر على الأمر بالمعروف للإيذان بأنهما فريضة واحدة لتلازمهما في الغالب . وأما عطف ( والحافظون لحدود الله ) على جملة ما تقدم ، فقيل لأن التعداد قد تم بالوصف السابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء عدد آخر معطوف عليه ، وإن هذه الواو تسمى واو الثمانية .

                          وأنكر هذه الواو النحاة المحققون ، وقيل لأنه إجمال لما تقدم من التفصيل قبله ، فلا يصح [ ص: 45 ] أن يجعل فردا من أفراده فيسرد معه . وأقوى منه عندي أنه وصف جامع للتكاليف عامة ، والمنهيات خاصة ، والسبعة المسرودة قبله من المأمورات ، ولا يحصل الكمال للمؤمن بها إلا مع اجتناب المنهيات ، وهو أول ما يلاحظ في حفظ حدود الله ، قال تعالى : ( تلك حدود الله فلا تقربوها ) ( 2 : 187 ) ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) ( 2 : 229 ) ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) ( 65 : 1 ) وعلى هذا يكون معنى نظم الآية : أن المؤمنين الكاملين الذين باعوا أنفسهم لله تعالى هم المتصفون بالصفات السبع ، والحافظون مع ذلك لجميع حدود الله في كل أمر ونهي ، ويعبر عن هذا في عرف هذا العصر بقولهم : ( ( المثل الأعلى ) ) ويطلقونه على الأفراد النابغين في بعض الفضائل العامة ، وعلى الجماعات والأمم الراقية ، ويكفي أن يقال فيه ( ( المثل ) ) في كذا . كما قال تعالى : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) ( 43 : 57 ) وقال : ( وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ) ( 43 : 59 ) أو يقال : مثل عال ، أو مثل شريف . وأما الأعلى فهو الله عز وجل كما قال عن نفسه : ( ولله المثل الأعلى ) ( 16 : 60 ) وقال : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) ( 30 : 27 ) .

                          وجملة القول فيهم أنهم الحافظون لجميع حدود الله تعالى . وخصت تلك الخلال السبع بالذكر لأنها هي التي تمثل في نفس القارئ أكمل ما يكون المؤمن به محافظا على حدود الله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية