الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          آية نبوة محمد عقلية علمية وسائر آياته الكونية :

                          هذا وإن ما رواه المحدثون بالأسانيد المتصلة تارة وبالمرسلة أخرى من الآيات الكونية التي أكرم الله تعالى بها رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - هي أكثر من كل ما رواه الإنجيليون وأبعد عن التأويل . ولم يجعلها برهانا على صحة الدين ولا أمر بتلقينها للناس .

                          ذلك بأن الله تعالى جعل نبوة محمد ورسالته قائمة على قواعد العلم والعقل في ثبوتها وفي موضوعها ; لأن البشر قد بدءوا يدخلون في سن الرشد والاستقلال النوعي الذي لا يخضع عقل صاحبه فيه لاتباع من تصدر عنهم أمور عجيبة مخالفة للنظام المألوف في سنن الكون ، بل لا يكمل ارتقاؤهم واستعدادهم بذلك ، بل هو من موانعه ، فجعل حجة نبوة خاتم النبيين عين موضوع نبوته وهو كتابه المعجز للبشر بهدايته وعلومه وإعجازه اللفظي والمعنوي : كما بيناه في تفسير سورة البقرة ليربي البشر على الترقي في هذا الاستقلال ، إلى ما هم مستعدون له من الكمال .

                          هذا الفصل بين النبوات الخاصة الماضية ، والنبوة العامة الباقية ، قد عبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ( ( ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر . وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) ) متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - .

                          وقص الله تعالى علينا في كتابه أن المشركين اقترحوا الآيات الكونية ( العجائب ) على رسوله فاحتج عليهم بالقرآن في جملته وبما فيه من أخبار الرسل والكتب السابقة التي [ ص: 132 ] لم يكن يعلمها هو ولا قومه ، وبهدايته وبعلومه وبإعجازه ، وعدم استطاعة أحد ولا جماعة ولا العالم كله على الإتيان بمثله ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) ( 17 : 88 ) .

                          وأما ما أكرمه الله تعالى به من الآيات الكونية فلم يكن لإقامة الحجة على نبوته ورسالته ، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه في الشدائد : كنصرهم على المعتدين عليهم من الكفار الذين يفوقونهم عددا وعددا واستعدادا بالسلاح والطعام ، وناهيك بغزوة بدر والنصر فيها ، ثم بغزوة الأحزاب إذ تألب المشركون واليهود على المسلمين وأحاطوا بمدينتهم فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال .

                          من تلك الآيات شفاء المرضى وإبصار الأعمى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل في هذه الغزوة وفي غزوة تبوك كما وقع للمسيح عليه السلام ، ومنه تسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين ، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ في الرمل ببدر ، ولم يصب المشركين من غيثها شيء ، ومثل ذلك في غزوة تبوك إذ نفد ماء الجيش في الصحراء والحر شديد حتى كانوا يذبحون البعير ويخرجون الفرث من كرشه ليعتصروه ويبلوا به ألسنتهم على قلة الرواحل معهم ، وكان يقل من يجد من عصارته ما يشربه شربا ، فقال أبو بكر : يا رسول الله إن الله عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فرفع يديه فدعا فلم يرجعهما حتى كانت السماء قد سكبت لهم ماء ملئوا ما معهم من الروايا ولم تتجاوز عسكرهم .

                          تأثير العجائب في الأفراد والأمم .

                          لقد كانت آيات المرسلين حجة على الجاحدين المعاندين استحقوا بجحودها عذاب الله في الدنيا والآخرة ، ولم يؤمن بها ممن شاهدوها إلا المستعدون للإيمان بها ، إن فرعون وقومه لم يؤمنوا بآيات موسى ، وإن أكثر بني إسرائيل لم يعقلوها ، وقد اتخذوا العجل وعبدوه بعد رؤيتها . وقال اليهود في المسيح : لولا أنه رئيس الشياطين لما أخرج الشيطان من الإنسان وقالوا : إن إبليس أو بعلزبول يفعل أكبر من فعله ، وما كان أكثرهم مؤمنين . وقال المنافقون وقد رأوا بأعينهم سحابة واحدة في إبان القيظ قد مطرت عسكر المؤمنين وحده عند دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : إننا مطرنا بتأثير النوء لا بدعائه .

                          وقد كان أكثر من آمن بتلك الآيات إنما خضعت أعناقهم واستخذت أنفسهم لما لا يعقلون له سببا ، وقد انطوت الفطرة على أن كل ما لا يعرف له سبب فالآتي به مظهر للخالق سبحانه إن لم يكن هو الخالق نفسه وكان أضعاف أضعافهم يخضع مثل هذا الخضوع نفسه للسحرة والمشعوذين والدجالين ولا يزالون كذلك .

                          [ ص: 133 ] وقد نقلوا عن المسيح عليه السلام أنه سيأتي بعده مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا ( متى 24 : 24 ) وقد ذكر في قاموس الكتاب المقدس عددا كثيرا منهم وأسماء بعضهم . وأقول : إن منهم القادياني الذي ظهر من مسلمي الهند ، وتذكر صحف الأخبار ظهور هندي آخر يريد إظهار عجائبه في أمريكا في هذا العام ونقلوا عن المسيح أنه قال : ( ( الحق أقول لكم ليس كل نبي مقبولا في وطنه ) ) وجعل القاعدة لمعرفة النبي الصادق تأثير هدايته في الناس لا الآيات والعجائب فقال : ( ( من ثمارهم تعرفونهم ) ) ولم يظهر بعده - ولا قبله - نبي كانت ثماره الطيبة في هداية البشر كثمار محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد يصدق عليه قوله في إنجيل يوحنا ( 16 : 12 إن لي أمورا كثيرة أيضا ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متى جاء ذلك ( أي البارقليط روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ) إلخ وما جاء بعده نبي أرشد الناس إلى جميع الحق في الدين من توحيد وتشريع وحكمة وتأديب غير محمد رسول الله وخاتم النبيين .

                          ومن استقرأ تواريخ الأمم علم أن أهل الملل الوثنية أكثر اعتمادا على العجائب من أهل الأديان السماوية ، ورأى الجميع ينقلون منها عن معتقديهم من الأولياء والقديسين أكثر مما نقلوا عن الأنبياء المرسلين ، وأن أكثر المصدقين بها من الخرافيين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية