الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المقصد السادس من مقاصد القرآن بيان حكم الإسلام السياسي الدولي

                          ( بيان حكم الإسلام السياسي الدولي : نوعه وأساسه وأصوله العامة )

                          الإسلام دين هداية وسيادة وسياسة وحكم ؛ لأن ما جاء به من إصلاح البشر في جميع شئونهم الدينية ومصالحهم الاجتماعية والقضائية يتوقف على السيادة والقوة والحكم بالعدل وإقامة الحق ، والاستعداد لحماية الدين والدولة ، وفيه أصول وقواعد .

                          ( القاعدة الأساسية الأولى للحكم الإسلامي )

                          الحكم في الإسلام للأمة ، وشكله شورى ، ورئيسه الإمام الأعظم أو ( الخليفة ) منفذ لشرعه ، والأمة هي التي تملك نصبه وعزله ، قال الله تعالى في صفات المؤمنين ( وأمرهم شورى بينهم ) ( 42 : 38 ) وقال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وشاورهم في الأمر ) ( 3 : 159 ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في المصالح العامة من سياسية وحربية ومالية مما لا نص فيه في كتاب الله تعالى ، وقد بينت في تفسيرها حكمة ترك الشورى لاجتهاد الأمة .

                          وقال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) ( 4 : 159 ) وأولو الأمر هم أهل الحل والعقد والرأي الحصيف في مصالحها ، الذين تثق بهم الأمة وتتبعهم فيما يقرونه ، بدليل قوله تعالى بعد تلك الآية من سورتها : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 4 : 83 ) فأولو الأمر الذين كانوا مع الرسول ، وكان [ ص: 218 ] الأمر يرد إليه وإليهم في الشئون العامة للأمة من الأمن والخوف وغيرهما ، هم الذين كان - صلى الله عليه وسلم - يستشيرهم في الأمور الدقيقة والسرية المهمة . وكان يستشير جمهور المسلمين فيما لهم به علاقة عامة ويعمل برأي الأكثر وإن خالف رأيه ، كاستشارتهم في غزوة أحد في أحد الأمرين : الحصار في المدينة أو الخروج إلى أحد للقاء المشركين فيه . وكان رأيه ورأي بعض كبار الأمة الأول ، ورأي الجمهور الثاني ، فنفذ رأي الأكثر ، ولكنه استشار في مسألة أسرى بدر خواص أولي الأمر وعمل برأي أبي بكر ، كما فصلناه في تفسير سورة الأنفال .

                          وقد بينت في تفسير الآية الأولى ( 4 : 59 ) ما تدل عليه من قواعد الحكم الإسلامي وكونه أفضل من الحكم النيابي الذي عليه دول هذا العصر .

                          ومن الدلائل الكثيرة على أن التشريع القضائي والسياسي هو حق الأمة المعبر عنها في الحديث بالجماعة ، أن القرآن يخاطب بها جماعة المؤمنين في هاتين الآيتين الخاصتين بالحكم العام والدولة وفي سائر الأحكام العامة ، كقوله : ( براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ) ( 9 : 1 ) وما يليها من الآيات المتعلقة بالمعاهدات والحرب والصلح ، وما في معناها من سورة الأنفال والبقرة وآل عمران ومثل قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) ( 49 : 9 ) وكذلك خطابه لهم في أحكام الأموال كالغنائم وتخميسها وقسمتها وأحكام النساء وغيرها ( وقد بينا هذا كله في مواضعه من التفسير ) .

                          وقد صرح كبار النظار من علماء الأصول بأن السلطة في الإسلام للأمة يتولاها أهل الحل والعقد الذين ينصبون عليها الخلفاء والأئمة ، ويعزلونهم ، إذا اقتضت المصلحة عزلهم قال الإمام الرازي في تعريف الخلافة : هي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص . وقال في القيد الأخير ( الذي زاده على من قبله ) هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه . قال العلامة السعد التفتازاني في شرح المقاصد عند ذكر هذا التعريف وما علل به القيد الأخير : وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ، واعتبر رئاستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة . اهـ ، وقد فصلنا مسألة سلطة الأمة في كتابنا ( الخلافة أو الإمامة العظمى ) .

                          فهذه القاعدة الأساسية لدولة الإسلام أعظم إصلاح سياسي للبشر ، قررها القرآن في عصر [ ص: 219 ] كانت فيه جميع الأمم مرهقة بحكومات استبدادية استعبدتها في أمور دينها ودنياها ، وكان أول منقذ لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن يقطع بأمر من أمور السياسة والإدارة العامة للأمة إلا باستشارة أهل الرأي والمكانة في الأمة ؛ ليكون قدوة لمن بعده .

                          ثم جرى على ذلك الخلفاء الراشدون ، فقال الخليفة الأول أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في أول خطبة خطبها على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقب مبايعته : أما بعد ، فقد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإذا استقمت فأعينوني ، وإذا زغت فقوموني . وقال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من رأى منكم في عوجا فليقومه فقال له أعرابي : لو رأينا فيك عوجا لقومناه بسيوفنا . فقال : الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم عوج عمر بسيفه . وكان يجمع أهل العلم والرأي من الصحابة ويستشيرهم في كل مسألة ليس فيها نص من كتاب الله ولا سنة أو قضاء من رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقال الثالث عثمان - رضي الله عنه - أمري لأمركم تبع ، وكذلك كان عمل الخليفة الرابع علي المرتضى - رضي الله عنه - وكرم وجهه ، ولا أذكر له كلمة مختصرة مثل هذه الكلمات على المنبر .

                          وإذا أوجب الله المشاورة على رسوله فغيره أولى ، ولا يصح أن يكون حكم الإسلام أدنى من حكم ملكة سبأ العربية فقد كانت مقيدة بالشورى ، ووجد ذلك في أمم أخرى ، وإن جهل ذلك من جهله من الفقهاء .

                          ولكن ملوك المسلمين زاغوا بعد ذلك عن هذا الصراط المستقيم إلا قليلا منهم وشايعهم علماء الرسوم المنافقون ، وخطباء الفتنة الجاهلون ، حتى صار المسلمون يجهلون هذه القاعدة الأساسية لحكومة دينهم ، وكان من حسن حظ الإفرنج في حربهم الصليبية أن كان سلطان المسلمين الذي نصره الله عليهم يقتفي في حكمه أثر الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ، وهو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي قال لأحد رجاله المتميزين عنده وقد استعداه على رجل غشه : ( ( ما عسى أن أصنع لك ، وللمسلمين قاض يحكم بينهم ، والحق الشرعي مبسوط للخاصة والعامة وأوامره ونواهيه ممتثلة ، وإنما أنا عبد الشرع وشحنته ، فالحق يقضي لك أو عليك ) ) ومعنى عبارة السلطان : أنه ليس إلا منفذا لحكم الشرع - كالشحنة وهو صاحب الشرطة - وأن القضاة مستقلون بالحكم لأنهم يحكمون بالشرع العادل المساوي بين الناس . وقد اقتبس الصليبيون منه طريقة حكمه ، ثم درسوا تاريخ الإسلام فعرفوا منه ما جهله أكثر المسلمين المتأخرين ، حتى أسسوا حكم دولهم على قاعدة سلطة الأمة التي جاء بها الإسلام وصاروا يدعونها لأنفسهم ، ويعيبون الحكومات الإسلامية باستبدادها ، ثم يجعل الإسلام نفسه سبب هذا الاستبداد والحكم الشخصي ، وصار المسلمون يصدقونهم ، ويرى المشتغلون [ ص: 220 ] بالسياسة وعلم الحقوق منهم أنه لا صلاح لحكوماتهم إلا بتقليدهم ، فكان هذا من أسباب ضياع أعظم مزايا الإسلام السياسية التشريعية وذهاب أكثر ملكه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية