الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          بطلان الأخذ بالكشف في الدين :

                          وأما الكشف فهو ضرب من إدراك النفس الناطقة غير ثابت ولا مطرد ، فليس بدليل عقلي ولا شرعي ، وإنما هو إدراكات ناقصة تخطئ وتصيب ، وقد عرفت أسبابه الطبيعية وأن منها ما هو فطري ، ومنها ما هو كسبي وصناعي ، كالتنويم المغناطيسي المعروف في هذا العصر ، وما يسمونه قراءة الأفكار ومراسلة الأفكار ، ويشبهونه بنقل الأخبار بخطوط الأسلاك الكهربائية وبدونها ، وهو يقع للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، ويعترف به صوفية المسلمين لصوفية الهندوس وغيرهم ، كما يعترفون بتلبيس الشياطين عليهم فيه ، وقلة من يميز بين الكشف الشيطاني والكشف الحقيقي منهم ، ولا يصح أن يسمى حقيقيا إلا ما وافق نصا قطعيا .

                          ومن دلائل الخطأ والتلبيس والتخيلات في الكشف الذي يسمونه النوراني تعارض أهله وتناقضهم فيه ، وما يذكرونه فيه من معلوماتهم المختلفة باختلاف معلوماتهم الفنية والخرافية والشرعية ، فترى بعضهم يذكر في كشفه جبل قاف المحيط بالأرض والحية المحيطة به كما تراه في ترجمة الشعراني للشيخ أبي مدين وهو من الخرافات التي لا حقيقة لها ، ومنهم من يذكر في كشفه الأفلاك وكواكبها على الطريقة اليونانية الباطلة أيضا . وأكثرهم يذكرون في كشفهم الأحاديث الموضوعة ، فإن اعترض عليهم أو على المفتونين بكشفهم علماء الحديث [ ص: 366 ] قالوا : إن الحديث قد صح في كشفنا وإن لم يصح في رواياتكم ، وكشفنا أصح لأنه من علم اليقين وعلمكم ظني . والحاصل أن كشفا هذا شأنه وشأن أهله إن صح أن يصدق فيما لا يخالف نصوص الشرع وعقائده وأحكامه ، فلا يصح لمن يؤمن بكتاب الله وسنة رسوله أن يصدق منه ما يخالفهما ، وأن يثبت من أمر عالم الغيب ما لم يثبت بهما ، وما أغنانا عن هذا كله ، وفي جمع الجوامع أن الإلهام - وهو الكشف الصحيح عندهم ، ( ( ليس بحجة لعدم ثقة من ليس معصوما بخواطره خلافا لبعض الصوفية ) ) أي ولا يعتد بخلافهم لأنهم خالفوا به الأصول كما خالفوا النصوص .

                          الكرامات لا تدل على الولاية فضلا عن العصمة :

                          وأما الكرامات فهي نوع من خوارق العادات التي تروى عن جميع الأمم المختلفة الأديان والملل ، وقد قال علماء الكلام إنها تقع للمؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، والنبي والساحر ، ويختلف اسمها باختلاف من ظهرت على يديه ، فتسمى معجزة للنبي المرسل إذا تحدى بها ، وكرامة للرجل الصالح المتبع للرسول ، ومعونة لمن دونه من المؤمنين واستدراجا للكافر والفاسق .

                          وصحت الأحاديث بأن الدجال يظهر على يديه من الخوارق الكبرى ما قلما كان مثله في المعجزات حتى إحياء الموتى . وقال أئمة الصوفية العارفون : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تعتدوا به ( أو كلمة بهذا المعنى ) حتى تروه عند الأمر والنهي الشرعيين ، وقال مثل ذلك الخلاطون منهم ، ففي الباب الثالث من كتاب ( الأنوار القدسية ) للشعراني ( ( وظهور الكرامات ليس بشرط في الولاية وإنما يشترط امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، فيكون أمره مضبوطا على الكتاب والسنة ، فمن كان كذلك فالقرآن يشهد بولايته وإن لم يعتقد فيه أحد ) ) إلخ . وهذا عين ما حققناه في تفسير الآية .

                          ومن خلطه أن أكثر ما ذكره من كلامهم في طبقاتهم مخالف لشرطه ، فهو يبطل ولاية أكثر رجال أهلها من العقلاء فضلا عن المجاذيب المجانين ، فإنهم لا يعدون من الأولياء العارفين ; لأنهم غير مكلفين .

                          ومنه ، وفي الباب الأول منه : ( ( فلو رأينا الصوفي يتربع في الهواء لا يعبأ به إلا إذا امتثل أمر الله واجتنب نهيه في المحرمات الواردة في الكتاب والسنة ، مخاطبا بتركها كل الخلق المكلفين لا يخرج عن ذلك أحد منهم ، ومن ادعى أن بينه وبين الله تعالى حالة أسقطت عنه التكاليف الشرعية من غير ظهور أمارة تصدقه على دعواه فهو كاذب ، كمن يشطح من شهود في حضرة خيالية على الله وعلى أهل الله ، ولا يرفع بالأحكام الشرعية رأسا ، ولا يقف عند حدود الله تعالى مع وجود عقل التكليف عنده ، فهذا مطرود عن باب الحق ، مبعد [ ص: 367 ] عن مقعد صدق ، وحرام على الفقيه وغيره أن يسلم لمثل هذا ) ) ا ه . وهو يخالف هذا الحق في مواضع أخرى .

                          ثم قال ( في آخر ص 8 منه ) واعلم أن طريق القوم على وفق الكتاب والسنة ، فمن خالفهما خرج عن الصراط المستقيم كما قال سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد - رضي الله عنه - ، فلا تظن أنهم كانوا كحال غالب المنسوبين إلى التصوف في هذا الزمان فتسيء الظن بهم ، إنما كانوا - رضي الله عنهم - عالمين بأسرار الشريعة ، قائمين صائمين زاهدين ورعين خائفين وجلين كما يعلم ذلك من تراجمهم وطبقاتهم ، وإنما أنكر من أنكر على المتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين بالمتشبهين ست مرات منهم ، فكل قرن منهم بالنسبة لمن قبله يصح عليه الإنكار إذ ادعى أنه على طريقة من كان قبله ، لأن الناس لم يزالوا راجعين القهقرى وإليه الإشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ) الحديث ا ه .

                          أقول : إن هذا التصرف قد ذر قرنه في أواخر القرن الثاني وظهر الشذوذ في المنتحلين له في القرن الثالث . وقد قال الإمام الشافعي الذي توفي سنة 202 هـ . إذا تصوف الرجل في الصباح لا يأتي المساء - أو قال العصر - إلا وهو مجنون . وأنكر الإمام أحمد الذي توفي سنة 241 ه . بعده على خيارهم ، ونهى عن قراءة كتب الحارث المحاسبي على التزامه الكتاب والسنة علما وعملا كما بيناه في تفسير سورة براءة ، وقد توفي الحارث في سنة 243 ه . وهو أستاذ أكابر البغداديين ، وممن أخذ عنه سيد الطائفة أبو القاسم الجنيد ، فإذا قلنا إن الشعراني يعد أهل قرنه العاشر في الدرجة السادسة من المتشبهين بالصوفية ، فالظاهر أنه يعد أهل القرن الخامس أول المتشبهين الذين ينكر عليهم . وقد أنكر الغزالي في كتاب الغرور من الإحياء على المتشبهين بهم وعد منهم فرقا من أهل المكاشفات ، وكان ذلك في أواخر القرن الخامس فإن الغزالي توفي سنة 505 ه . وكان قد تاب إلى الله من علوم التصوف والكلام وانقطع إلى علم السنة : ثم إن ابن الحاج المالكي المتوفى سنة 737 ه . تكلم في كتابه المدخل على هؤلاء المتشبهين بالمشايخ من أهل عصره في القرن الثامن وبين ما لهم من المنكرات وفند ما يدعونه من الكرامات . وقام في هذا القرن أيضا شيخ الإسلام ، مدره السنة الأكبر ، وقامع البدع الأقهر ، أحمد بن تيمية ، نبذ من قبله ، وأغنى عمن جاء بعده ، وعلى كتبه وكتب تلميذه ابن القيم المعول .

                          [ ص: 368 ] تفضيل أهل الحديث على غيرهم :

                          ومما كتبه الشعراني في كتابه هذا من الحق بين الأباطيل قوله في الباب الثاني من كتابه المذكور - وهو في طلب العلم - ما نصه :

                          ( ( واعلم أنه ما مت بالإرث للأنبياء عليهم السلام على الحقيقة ، إلا المحدثون الذين رووا الأحاديث بالسند المتصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قاله شيخنا ، فلهم حظ في الرسالة لأنهم نقلة الوحي ، وهم ورثة الأنبياء في التبليغ ، والفقهاء بلا معرفة دليلهم ليس لهم هذه الدرجة ، فلا يحشرون مع الرسل إنما يحشرون في عامة الناس ، فلا ينطبق اسم العلماء حقيقة إلا على أهل الحديث . وكذلك العباد والزهاد وغيرهم من أهل الآخرة ، إذا لم يكونوا من أهل الحديث حكمهم حكم الفقهاء الذين ليسوا من أهل الحديث ، فيحشرون مع عموم الناس ويتميزون عنهم بأعمالهم الصالحة لا غير كما أن الفقهاء يميزون عن العامة في الدنيا ، لا غير ) ) ا ه .

                          ولكن بعض من يسمون كبار العلماء في زماننا يفضلون خرافات المتشبهين بالمتصوفة في الدرجة السادسة إلى العاشرة وآراء مقلدي الفقهاء في الدرجة الخامسة - وهي السفلى - على علماء الحديث وفقهائه وحكمائه ، ويطعنون في المحدثين وكل من يهتدي بالحديث قولا وكتابة بل صرح بعضهم بأن من يعمل بالحديث فهو زنديق ! ! .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية