الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وأما كون إثم الميسر كبيرا أو كثيرا فقد جاء فيه ما جاء في الخمر من كونه يورث العداوة والبغضاء ، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهذا ظاهر في ميسر العرب ، وفي [ ص: 262 ] جميع أنواع القمار المعروفة في عصرنا إلا ما يسمونه ( اليانصيب ) فإنه على كونه ميسرا لا شك فيه لا يظهر جميع مفاسده في بعض أنواعه وهذا بيانه :

                          ميسر اليانصيب

                          هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار - جنيه - مثلا تجعل جزءا كبيرا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلا يقسم بينهم بطريقة الميسر وتأخذ هي الباقي; ذلك بأن تطبع أوراقا صغيرة كأنواط المصارف المالية ( بنك نوت ) تسمى أوراق ( اليانصيب ) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارا واحدا مثلا يطبع عليها ، وتجعل العشرة آلآلاف التي تعطي ربحا لمشتري هذه الأوراق مائة سهم أو نصيب تعرف بالأرقام العددية وتسمى النمر - جمع نمرة - ويطبع على الورقة المشتراة عددها وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها ، وتجعل باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه السحب ، ذلك بأنهم يتخذون قطعا صغيرة من المعدن ينقش في كل واحدة منها عدد من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحدة إلى مائة ألف إذا كان المبيع من الأوراق مائة ألف ، ويضعونها في وعاء من المعدن كروي الشكل كخريطة الأزلام ( القداح ) التي بيناها آنفا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر ، فإذا كان يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولا سمي النمرة الأولى مهما يكن عددها ، وهي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند العرب ، وما خرج منها ثانيا سمي النمرة الثانية ، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي الأول ، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده وكان الباقي خاسرا .

                          وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون عند السحب وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه ، ولا يعملون له عملا آخر فيشغلهم عن الصلاة أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة ، ولا يعرف الخاسر منهم فردا أو أفرادا أكلوا ماله فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب وقمار الموائد ونحوه ، وكثيرا ما يجعل ( اليانصيب ) لمصلحة عامة كإنشاء المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء ، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات الحربية ، والحكومات التي تحرم القمار تبيح ( اليانصيب ) الخاص بالأعمال الخيرية العامة أو الدولية . ولكن فيه مضار القمار الأخرى، وأظهرها أنه طريق لأكل أموال الناس بالباطل; أي : بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، هذا محرم بنص القرآن كما تقدم في محله ، وقد يقال : إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة المرضى أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء أو ملجأ [ ص: 263 ] لتربية اللقطاء لا يظهر فيه معنى أكل أموال الناس بالباطل إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية المال من جمعية أو حكومة ، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب ، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن الصلاة .

                          ومن مضرات الميسر ما نبه إليه الأستاذ الإمام - ولم يسبقه إليه أحد من المفسرين - وهو إفساد التربية بتعويد النفس الكسل وانتظار الرزق من الأسباب الوهمية ، وإضعاف القوة العقلية ، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية ، وإهمال الياسرين ( المقامرين ) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان العمران .

                          ومنها - وهو أشهرها - تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في ساعة واحدة ، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز ، وانحصرت ثروتها في رجل أضاعها عليها في ليلة واحدة فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك .

                          وأما المنافع في الخمر فأهمها التجارة ، فقد كانت ولا تزال موردا كبيرا للثروة ومادة عظيمة للتجارة ، ولولا ذلك لغلب علماء الإفرنج على جهالهم وأبطلوا عمل الخمور وبيعها حتى لا يبقى منها إلا ما يعمل سرا كما هو شأن الناس في اللذات الممنوعة . وقد كانت العرب تسخو في شراء الخمر ما لا تسخو في غيرها ، وكانوا يعدون ترك المماكسة فيها مكرمة وفضيلة، فيكثر ربح مجتلبها وبائعها .

                          ومنها أنها قد تكون علاجا لبعض الأمراض ككثير من السموم والنبات الضار بالمزاج المعتدل ، ولكن الدواء يؤخذ بمقدار قليل قد يعينه الطبيب بالنقط، فإذا زاد كان شديد الضرر كسائر الأدوية ولا سيما السامة منها ، فالتداوي بالخمر لا يتفق مع شربها للنشوة واللذة .

                          ومنها أنها تسلي الحزين على أن ما يكون بعدها من رد الفعل يزيد في الحزن والكآبة .

                          ومنها أنها تسخي البخيل، ولكن هذا السخاء قد صار ضررا كله; لأنه يذهب بثروة البلاد فيضعها في أيدي شرار الأجانب ، وقد كان في الجاهلية نافعا; لأن الرجل كان يبذل ماله في قومه .

                          ومنها أنها تثير النخوة وتشجع الجبان وربما كان هذا أعظم منافعها عند العرب في الجاهلية ، وهو من أكبر مضراتها في هذا الزمان، ومثل هذه البلاد; لأن هذه الحمية هي السبب فيما يكون بين السكارى من التنازع والتخاصم والاعتداء ، ولا حاجة إليها في الحرب [ ص: 264 ] الآن بل هي ضارة فيها; لأن الحرب صارت صناعة دقيقة وفنا من العلم لا بد فيها من حضور العقل وجودة النظر; فرب غلطة من قائد تذهب بجيشه وتظفر به عدوه ، فالضباط مدبرون والجنود آلات عاقلة في أيديهم لا نجاح لها إلا بالسمع والطاعة مع الفهم ، والسكر قد يحول دون حسن التدبير من الضباط وسرعة الامتثال من الجنود ، وقد اتفقت الحكومات التي تبيح الخمر على منعها عن الجيوش في زمن الحرب .

                          ويعدون من منافع بعض الخمور القليلة التأثير كالجعة ( البيرة ) التغذية والتحليل ، ويعجبني جواب سؤال في ذلك ذكر في مجلة عربية وهو أن لقمة من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرة، وأن كوبا من الماء أشد تحليلا من كوب منها ، على أنه ليس في الخبز والماء ضرر ما ، ومن الجعة ما لا يسكر كما يقال .

                          ومن منافع الميسر مواساة الفقراء كما علمت من عادة العرب التي لا وجود لها الآن ، وإلا فيما ذكر آنفا من النوع الذي يسمونه ( يانصيب ) لبناء الملاجئ والمستشفيات والمدارس ، وغير ذلك من البر الذي هو أنفع للفقراء من لحم الجزور الذي كان العرب يخصونهم به ، ومنها سرور الرابح وأريحيته ، ويقابله كدر الذين يخسرون وهم الأكثرون; لأن أكثر ربح القمار في هذا العصر يغتاله الذين يديرون أعماله .

                          ومنها أن يصير الفقير غنيا من غير تعب ولا نصب ، ولكن هذا من أشد ضرره في الأمة، أو أشده كما تقدم .

                          وزعم بعض الناس أن المنافع التي كانت في الخمر والميسر قد سلبها الله تعالى منهما بعد التحريم وهو قول غير معقول ولا دليل عليه ، بل الحس ينبذه ولا حاجة إليه في التنفير عن الجريمتين بعد ما بين الله تعالى الأصل في التنفير بقوله : ( وإثمهما أكبر من نفعهما ) وهذا القول إرشاد للمؤمنين إلى طريق الاستدلال ، فكان عليهم أن يهتدوا منه إلى القاعدتين اللتين تقررتا بعد في الإسلام : قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وقاعدة ترجيح ارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما ، ولكن لم يهتد إلى ذلك جميعهم ، إذ ورد أن بعضهم ترك الخمر عند نزول الآية وبعضهم لم يترك كما تقدم .

                          هذا ما كنت كتبته ونشرته في تفسير الآية في المرة الأولى ، ثم فطنت بعد ذلك إلى قاعدة عظيمة من قواعد التشريع الإسلامي بينتها في المنار وفي التفسير واستدللت عليها بهذه الآية ، وهي أن ما كانت دلالته على التحريم من النصوص ظنية غير قطعية لا يجعل تشريعا عاما تطالب به كل الأمة، وإنما يعمل فيه كل واحد باجتهاده ، فمن فهم منه الدلالة على تحريم شيء امتنع منه ، ومن لم يفهم منه ذلك جرى فيه على أصل الإباحة . ودلالة هذه الآية على [ ص: 265 ] تحريم الخمر والميسر ظنية ، ولذلك عمل فيها الصحابة باجتهادهم - على اختلافهم فيه - وأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ، وبقي عمر بن الخطاب يدعو الله أن يبين للأمة في الخمر بيانا شافيا حتى نزلت آية سورة المائدة كما تقدم آنفا ، فترك جميع الصحابة الخمر والميسر; لأن دلالتها قطعية لا مراء فيها ، ولا سيما قوله تعالى : ( فهل أنتم منتهون ) لأنه استفهام بمعنى النهي المؤكد ، وأما كون إثم هاتين الفعلتين; أي : ضررهما أكبر من نفعهما مع إثبات المنافع لهما فلا يدل على ذلك دلالة قطعية .

                          ومضرة الخمر لا يجهلها أحد ، ولذلك كان في الجاهلية من حرمها على نفسه ومنهم العباس بن مرداس ، قيل له في الجاهلية : ألا تشرب الخمر ؛ فإنها تزيد في حرارتك ؟ فقال : ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد القوم وأمسي سفيههم .

                          وأطباء الإفرنج وعلماؤهم مجمعون على أن ضرر الخمر ، وكذلك الميسر - بالأولى - أكبر من نفعهما ، وقد ألفت جمعيات في أوربا وأمريكا للسعي في إبطال المسكرات ، فهم يتعاهدون على عدم الشرب ، وعلى الدعوة إلى ذلك والسعي لدى الحكومات بالتشديد على بائعي الخمور . فالأيام والأجيال كلما تقدمت وارتقت تؤيد قول القرآن بأن إثم الخمر والميسر أكبر من نفعهما ، فإن أطباء هذا العصر يصفون من مضرات الخمر ما لم يكن معروفا عند الأطباء المتقدمين ، وهو ما أطلقه الله تعالى لعباده ليبحثوا فيه ويتبينوا صدقه بأنفسهم; لتكون عقولهم مؤيدة لكتابه بوجوب اجتنابه .

                          ولكن لدينا من أهل الذكاء والفطنة وأدعياء العلم والمدنية من استعبدهم سلطان اللذة فصرفهم عن النظر والبحث في هذه المضرات ، كما صرفهم عن هداية الدين ، وصرف آباءهم عن تربيتهم عليه ، فأسرفوا في معاقرة الخمر حتى غيض معين حياة بعض الشبان ، وانكسفت شموس عقول آخرين قبل الاكتهال فحرموا من سعادة الحياة ، وحرمت بيوتهم وأمتهم مما كانت ترجوه من ذكائهم واستعدادهم . بدت فتنة السكر في طائفة من الكبراء والمتعلمين ، وصارت تعد من علامات المتفرنجين الذين يسمون المتمدينين ، وسرت عدواها إلى غيرهم من المقلدين ، حتى قلد فيها شيوخ القرى وعمد البلاد فكانوا شر قدوة للفلاحين والعمال والأجراء ، وعم خطر هذه الآفة التي تتبعها آفة الزنا حيث سارت ، ويتبع الزنا داء الزهري الذي هو من أسباب انقطاع النسل ، فأية منفعة توازي هذه الآفات القاتلة والجوائح المصطلمة ؟ !

                          [ ص: 266 ] نوه الأستاذ الإمام في الدرس بهذه العبرة وقال : إنني كنت أقول إن المصريين لايفنون في جنس آخر، وإن استولى عليهم قرونا طويلة ، ولكن غيرهم قد يفنى فيهم; لأنهم يرضون بكل سلطة ، ويدينون لكل قوة ، فلا يؤثر فيهم الذل والفقر كما يؤثر في غيرهم ، بل يظلون - ما وجدوا قوتا - يتناسلون ويكثرون ، والعامل لا يعدم في أرض زراعية كمصر قوتا; ولذلك تقلبت الأمم على المصريين ثم زالت أو زال سلطانها عنهم ، وبقي المصريون مصريين ، لهم سحنتهم وصفاتهم وأخلاقهم وعاداتهم ، ولكنني رجعت عن هذا القول بعد ما رأيت من انتشار الخمر والزنا في البلاد ، ولا سيما هذه الخمور الإفرنجية التي تباع للفقراء والفلاحين وما هي بخمر جعلت للشرب ، وإنما هي المادة المحرقة السامة التي تسمى ( السبرتو ) يضاف إليها شيء من الماء والسكر أو غير ذلك مما يمكن من تناولها ، فإذا استمر السكر والفحش على سريانهما هذا فلا يبعد أن تنقرض الأمة المصرية بعد جيلين أو ثلاثة كما انقرض هنود أمريكا فلا يبقى منهم إلا بقية من الخدم والأجراء عند من يخلفهم في الأرض ، فإن السكر والزنا كالمقراضين يقرضان الأمم قرضا .

                          وأما كون إثم الميسر أكبر من نفعه فهو أظهر مما تقدم في الخمر ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع القمار وعم ضررها ، حتى إن الحكومات الحرة التي تبيح تجارة الخمر تمنع أكثر أنواع القمار وتعاقب عليها ، على احترامها للحرية الشخصية في جميع ضروب التصرف التي لا تضر بغير العامل ، فمنفعة القمار وهمية ومضراته حقيقية; فإن المقامر يبذل ماله المملوك له حقيقة على وجه اليقين لأجل ربح موهوم ليس عنده وزن ذرة لترجيحه على خطر الخسران والضياع ، والمسترسل في إضاعة المحقق طلبا للمتوهم يفسد فكره ويضعف عقله; ولذلك ينتهي الأمر بكثير من المقامرين إلى بخع أنفسهم - قتلها غما - أو الرضى بعيشة الذل والمهانة .

                          قال الأستاذ الإمام : إنني أعرف رجلا كانت ثروته لا تقل عن ثلاثة آلاف ألف جنيه ( 3 ملايين ) فما زال شيطان القمار يغريه باللعب فيه حتى فقد ثروته كلها وعاش بقية حياته فقيرا معدما حتى مات جائعا ، وذكر أنه ربح في ليلة تسعمائة ألف فرنك ، فقال : لا أبرح حتى أتمها مليونا ، فلم يبرح حتى خسرها إلى مليون آخر ، وهكذا شأن أكثر المقامرين يغترون بالربح الذي يكون لهم أو لغيرهم أحيانا فيسترسلون في المقامرة حتى لا يبقى لهم شيء .

                          ولبيوت القمار في مصر طرق في استدراج الأغنياء لا يعقلها المصريون على ما يرون [ ص: 267 ] من آثارها في تخريب بيوت من اصطيدوا بأحابيلها من إخوانهم . ويحكى أن رجلا عاقلا رأى من ولده ميلا إلى المقامرة لمعاشرته بعض أهلها ، فلما حانت وفاته وخاف أن يضيع ولده ما يرثه عنه ، وعلم أن النهي لا يكون إلا إغراء ، قال له : يا بني أوصيك إذا شئت أن تقامر بأن تبحث عن أقدم مقامر في البلد وتلعب معه ، فطفق الولد بعده يبحث ويسأل ، وكلما دل على واحد علم منه أن هناك من هو أقدم منه حتى انتهى به البحث إلى شيخ رث الثياب ، ظاهر الاكتئاب ، فعلم من حاله ومقاله أن مآل المقامر إلى أسوأ مآب ، وأن والده قد اجتهد بنصيحته فأصاب ، وأنه أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، ورجع هو إلى رشده وأناب ، فلم يدخل بيت المقامرة من طاق ولا باب .

                          ويشترك الميسر مع الخمر في أن متعاطيهما قلما يقدر على تركهما والسلامة من بلائهما; لأن للخمر تأثيرا في العصب يدعو إلى العود إلى شربها والإكثار منها ، فإن ما تحدثه من التنبيه يعقبه خمود وفتور بمقتضى سنة رد الفعل ، فيشعر السكران بعد الصحو أنه مضطر إلى معاودة السكر ، ليزول عنه ما حل به ، فإذا هو عاد قويت الداعية ، وأما الميسر فإن صاحبه كلما ربح طمع في الزيادة ، وكلما خسر طمع في تعويض الخسارة ، ويضعف الإدراك حتى تعز مقاومة هذا الطمع الوهمي ، وهذا شر ما في هاتين الجريمتين .

                          وجملة القول أن الله تعالى قد هدانا لأن نعلم مضرات الخمر والميسر ببحثنا لنكون على بصيرة في تحريمهما علينا ، وأننا نرى الأمم التي لا تدين بالإسلام ولم تخاطب من الله تعالى بهذه الهداية قد اهتدت إلى ما لم نهتد إليه من تلك المضار ، وأنشأت تؤلف الجمعيات للسعي في إبطال هاتين الجريمتين ، ونحن الذين منحنا تلك الهداية منذ ثلاثة عشر قرنا ونيف أنشأنا نأخذ عن تلك الأمم ما أنشأت هي تقاومه وتذمه ، حتى إن السكر قد غلب في رؤساء دنيانا ، والميسر قد انتشر في أمرائنا وكبرائنا ، ثم فشا فيمن دونهم تقليدا لهم . نبه الأستاذ الإمام لهذه العبرة وقال : انظروا إلى من أنعم الله عليهم بهذه النعمة كيف صاروا يكفرونها ، وكيف حل بهم غضب الله تعالى فسلبوا معظم ما وهبوا ، ويخشى أن يمتد ذلك حتى يعز تداركه والعياذ بالله تعالى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية