الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولما كان من شأن الراغبين في التزوج بمن يتوفى زوجها المسارعة إلى خطبتها بين الله للمؤمنين ما يتعلق بذلك من الأحكام والآداب اللائقة بهم وبكرامة النساء في مدة العدة فقال : ( ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم ) فالمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن ، قالوا : ومثلهن المطلقات طلاقا بائنا ، وأما الرجعيات فلا يجوز التعريض لهن; لأنهن لم يخرجن عن عصمة بعولتهن بالمرة ، والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن منهجه إلى عرض منه وهو الجانب ، ويقابله التصريح ، فهو أن تفهم المخاطب ما تريد بضرب من الإشارة والتلويح يحتمله الكلام على بعد بمعونة القرينة، وفي الكشاف هو : أن تذكر شيئا تدل به على شيء لا تذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم . أقول : وللناس في كل عصر كنايات في هذا المقام ، ومما سمعته من استعمال عامة زماننا في هذا ذكر الرغبة في الزواج مسندة إلى أناس مبهمين ، نحو أن من الناس من يتمنى لو يكون له كذا أو يوفق إلى كذا ، والخطبة - بالكسر من الخطاب أو الخطب وهو الشأن العظيم ، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس ، وأما الخطبة - بالضم - فهي ما يوعظ به من الكلام ، والإكنان في النفس هو ما يضمره مريد الزواج في نفسه ويعزم عليه من التزوج بالمرأة بعد انقضاء العدة ، أباح الله تعالى أن [ ص: 338 ] يعرض الرجل للمرأة في العدة بأمر الزواج تعريضا ، وقرن ذلك بما يكون من النية في القلب والعزم المستكن في الضمير ، كأنه مثله في تعذر الاحتراز منه أو تعسره ، ولم يحرم عليهم أن يقطعوا في هذا الأمر بأنفسهم لأن الأمر أمر ديني ، بل راعى فيما شرعه لهم ما فطرهم عليه ، ولذلك ذكر وجه الرخصة فقال : ( علم الله أنكم ستذكرونهن ) في أنفسكم ، وخطرات قلوبكم ليست في أيديكم ، ويشق عليكم أن تكتموا رغبتكم وتصبروا عن النطق لهن بما في أنفسكم ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح ، فقفوا عند حد الرخصة ( ولكن لا تواعدوهن سرا ) أي في السر; فإن المواعدة السرية مدرجة الفتنة ومظنة الظنة . والتعريض يكون في الملأ لا عار فيه ولا قبح ، ولا توسل إلى ما لا يحمد ، وذهب جمهور العلماء إلى أن السر هنا كناية عن النكاح; أي : لا تعقدوا معهن وعدا صريحا على التزوج بهن ، قال الأستاذ الإمام : عبر عن النكاح بالسر; لأنه يكون سرا في الغالب ، وروي عن ابن عباس أنه قال : المواعدة سرا أن يقول لها : إني عاشق وعاهديني ألا تتزوجي غيري ونحو هذا ، وقيل : هي المواعدة على الفاحشة ، والدليل على أن النهي عام يراد به تحريم الكلام الصريح معها في الخلوة قوله : ( إلا أن تقولوا قولا معروفا ) قيل : هو التعريض ، وقال الأستاذ الإمام : هو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين بلا نكير كالتعريض ، وهذا أقوى من التعريض .

                          وجملة القول أنه لا يجوز للرجال أن يتحدثوا مع النساء المعتدات عدة الوفاة في أمر الزواج بالسر ويتواعدوا معهن عليه ، وكل ما رخص لهم فيه هو التعريض الذي لا ينكر الناس مثله في حضرتهن ، ولا يعدونه خروجا عن الأدب معهن ، والفائدة منه التمهيد وتنبيه الذهن ، حتى إذا تمت العدة كانت المرأة عالمة بالراغب أو الراغبين ، فإذا سبق إلى خطبتها المفضول ردته إلى أن يجيء الأفضل عندها ، وقد أوضح الأمر وسلك فيه مسلك الإطناب; لأن الناس يتساهلون في مثل هذه الأمور لما لهم من دافع الهوى إليها; ولذلك صرح بما فهم من سابق القول من جواز القصد إلى العقد بعد تمام العدة فقال :

                          ( ولا تعزموا عقدة النكاح ) أي : على عقدة النكاح على حذف ( ( على ) ) ويقال : عزم الشيء وعزم عليه واعتزمه; أي : عقد ضميره على فعله ، أو المعنى لا تعقدوا عقدة النكاح وهو العزم المتصل بالعمل لا ينفصل عنه ( حتى يبلغ الكتاب أجله ) أي : حتى ينتهي ما كتب وفرض من العدة ، فالكتاب بمعنى المكتوب; أي : المفروض أو بمعنى الفرض ، قال تعالى : ( كتب عليكم الصيام ) ( 2 : 183 ) وقال : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ( 4 : 103 ) وإنما عبر عن الفرضية المحتمة بلفظ الكتاب; لأن ما يكتب يكون أثبت وآكد وأحفظ ، وفسر بعضهم الكتاب بالقرآن على أن المراد به العدة أيضا كأنه قال : حتى يتم ما نطق به [ ص: 339 ] القرآن من مدة العدة ، والحاصل أن التزوج بالمرأة في العدة محرم قطعا ، ولأجله حرمت خطبتها فيها ، والعقد باطل بإجماع المسلمين .

                          ثم قال : ( واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه ) أي : يعلم ما تضمرونه في قلوبكم من العزم فاحذروا أن تعزموا ما حظره عليكم منه من قول وعمل ، قال الأستاذ الإمام : هذا التحذير راجع للأحكام التي تقدمت من التعريض وغيره جاء على أسلوب القرآن وسنته في قرن الأحكام بالموعظة ترغيبا وترهيبا ، تأكيدا للمحافظة عليها والالتفات إليها ، ولا يقال : إن العلم بما في النفس أعم من الخبر بالعمل ، فيستغنى عن هذا بما ختمت به الآية السابقة; لأن لكل كلمة مما ورد في هذا الكلام أثرا مخصوصا في النفس ، والمقصود واحد ، وما دامت الحاجة ماسة إلى شيء فلا يقال : إن في الإتيان به تكرارا مستغنى عنه ، وإن كثر وتعدد ولو بلغ الألوف بلفظه ، فكيف به إذا تنوع بعموم أو خصوص أو غير ذلك ؟ وقوله : ( واعلموا أن الله غفور حليم ) بعد ما ورد من الوعيد والتشديد في الآيات السابقة يبين أن للإنسان مخرجا بالتوبة إذا هو تعدى شيئا من الحدود وأراد الرجوع إلى الله تعالى ، فإنه غفور له حليم لا يعجل بعقوبته ، بل يمهله; ليصلح بحسن العمل ما أفسد بما سبق من الزلل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية