الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          له ما في السماوات وما في الأرض فهم ملكه وعبيده مقهورون لسنته خاضعون لمشيئته ، وهو وحده المصرف لشئونهم والحافظ لوجودهم من ذا الذي يشفع عنده منهم فيحمله على ترك مقتضى ما مضت به سنته ، وقضت به حكمته ، وأوعدت به شريعته ، من تعذيب من دسى نفسه بالعقائد الباطلة ، ودنسها بالأخلاق السافلة ، وأفسد في الأرض ، وأعرض عن السنة والفرض ، من ذا الذي يقدم على هذا من عبيده إلا بإذنه والأمر كله له صورة وحقيقة ؟ وليس هذا الاستثناء نصا في أن الإذن سيقع ، وإنما هو كقوله : يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه [ 11 : 105 ] فهو تمثيل لانفراده بالسلطان والملك في ذلك اليوم يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 : 19 ] ولهذا قال البيضاوي في تفسير الجملة : " بيان لكبرياء شأنه وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه ويستقل بأن يدفع ما يريده شفاعة واستكانة فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة " .

                          وقال الأستاذ الإمام ما محصله : إن في هذا الاستثناء قطعا لأمل الشافعين والمتكلين على الشفاعة المعروفة التي كان يقول بها المشركون وأهل الكتاب عامة ببيان انفراده - تعالى - بالسلطان والملك وعدم جرأة أحد من عبيده على الشفاعة أو التكلم بدون إذنه ، وإذنه غير معروف لأحد من خلقه ، ثم قال تعالى :

                          يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم أي ما قبلهم وما بعدهم أو بالعكس ، أو أمور الدنيا التي خلفوها وأمور الآخرة التي يستقبلونها أو ما يدركون وما يجهلون ، وهذا دليل على نفي الشفاعة بالمعنى المعروف ، وبيان ذلك أنه لما كان عالما بكل شيء فعله العباد في الماضي [ ص: 27 ] وما هو حاضر بين أيديهم وما يستقبلهم وكان ما يجازيهم به مبنيا على هذا العلم كانت الشفاعة المعهودة مما يستحيل عليه - تعالى - ; لأنها لا تتحقق إلا بإعلام الشفيع المشفوع عنده من أمر المشفوع له ، وما يستحقه ما لم يكن يعلم . مثال ذلك : إذا أراد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن ينفي رجلا من المدينة ولا يمكن أن يريد ذلك - وهو عادل - إلا إذا كان يعتقد المصلحة فيه بأن يكون الرجل مفسدا ضارا بالناس ، فإذا شفع له شافع ولم يبين لعمر ما لم يكن يعلم من أن المصلحة في بقائه دون نفيه ، فإنه لا يقبل شفاعته ; هذا إذا كانت الشفاعة عند سلطان عادل كعمر ، وأما إذا كانت عند سلطان جائر فيجوز أن تقبل ويترك نفي المفسد الضار بالناس لأجل مرضاة الشفيع ، كأن يكون من أعوان السلطان وبطانته الذين يؤثر مرضاتهم على المصلحة العامة ; لأنهم يؤثرون هواه على المصلحة الحقيقية ، وفي هذه الحال يظن الغافل أن الشفاعة ليس فيها إعلام المشفوع عنده بما لم يكن يعلم ولو رجع نظر البصيرة لرأى أن الشفيع قد أعلم السلطان أن هذا الرجل الجاني ممن يلوذ به ويهمه شأنه ويرضيه بقاؤه ولم يكن يعلم ذلك . فالشفاعة المعروفة التي يغتر بها الكافرون والفاسقون ويظنون أن الله - تعالى - يرجع عن تعذيب من استحق العذاب منهم لأجل أشخاص ينتظرون شفاعتهم هي مما يستحيل على الله - تعالى - لأنها - وهي من شأن أهل الظلم والبغي - تستلزم الجهل وهو ذو العلم المحيط ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ومن علم شيئا منك فلا سبيل له إلى التصدي لإعلامك به ، فماذا عسى أن يقول من يريد الشفاعة عنده بالمعنى الذي يعهده الناس ويغتر به الحمقى الذين يرجون النجاة بها في الآخرة بدون مرضاة الله - تعالى - في الدنيا ؟

                          قال الأستاذ الإمام : معناه أن الشفاعة تتوقف على إذنه ، وإذنه لا يعلم إلا بوحي منه - تعالى - ، يريد أن ذلك ترق في نفيها من دليل إلى آخر ، أي إذا أمكن أن تكون هناك شفاعة بمعنى آخر يليق بجلال الله - تعالى - كالدعاء المحض ، فإنه لا يجرؤ عليها أحد في ذلك اليوم العصيب إلا بإذن الله - تعالى - ، وإذنه - تعالى - مما استأثر بعلمه فلا يعلمه غيره إلا إذا شاء إعلامه به .

                          ثم قال : وإنما يعرف إذنه - تعالى - بما حدده من الأحكام في كتابه ، أي فمن بين أنه مستحق لعقابه فهو مستحق له لا يجرؤ أحد أن يدعو له بالنجاة ، ومن بين أنه مستحق لرضوانه على هفوات ألم بها لم تحول وجهه عن الله - تعالى - إلى الباطل والفساد الذي يطبع على الروح فتسترسل في الخطايا حتى تحيط بها وتملك عليها أمرها ، فذلك مستحق له ، منته إليه بوعد الله في كتابه وفضله على عباده - كما سبق في علمه الأزلي .

                          ثم قال الأستاذ الإمام : قالوا إن الاستثناء في قوله - تعالى - : إلا بإذنه واقع . وهو أن نبينا - عليه الصلاة والسلام - يشفع في فصل القضاء فيفتح باب الشفاعة فيدخل فيه غيره من الشفعاء كالأنبياء والأصفياء كما ثبت في الأحاديث . وهي مسألة أنكرها المعتزلة وأثبتها أهل السنة ، [ ص: 28 ] والله - تعالى - يأذن لمن يشاء ويطلع على علمه باستحقاق الشفاعة من يشاء ، كما علم من الاستثناء ، ونقول : أجمع كل من أهل السنة والمعتزلة وسائر فرق المسلمين على كمال علم الله - تعالى - وإحاطته ، وذلك يستلزم استحالة الشفاعة عنده بالمعنى المعهود - كما سبق القول - وقلنا هناك : إن مثل هذا الاستثناء ورد في القرآن لتأكيد النفي ، وبذلك نجمع بين الآيات التي تنفي الشفاعة بدون الاستثناء وبين هذه ، وقلنا : إن ما ورد في الحديث يأتي فيه الخلاف بين السلف والخلف في المتشابهات ، فنفوض معنى ذلك إليه - تعالى - أو نحمله على الدعاء الذي يفعل الله - تعالى - عقبه ما سبق في علمه الأزلي أن سيفعله مع القطع بأن الشافع لم يغير شيئا من علمه ولم يحدث تأثيرا ما في إرادته - تعالى - ; وبذلك تظهر كرامة الله لعبده بما أوقع الفعل عقب دعائه . أقول : وبهذا فسر الشفاعة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وراجع تفسير آية واتقوا يوما [ 2 : 48 ] إلخ .

                          وسع كرسيه السماوات والأرض قال الأستاذ الإمام : السياق يدل على أن الكرسي هو العلم الإلهي ، وبذلك قال بعض المفسرين وأهل اللغة . ويقال : كرس الرجل كفرح ، أي كثر علمه وازدحم على قلبه ; أي إن علمه - تعالى - محيط بما يعلمون مما عبر عنه بقوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وبما لا يعلمون من شئون سائر الكائنات . فبماذا يمكن أن يعلمه الشفعاء ؟ وقيل : هو العرش ، واختاره مفسرنا ( الجلال ) وهو إنما يثبت بخبر المعصوم .

                          وقيل : إنه تمثيل لملك الله - تعالى - ، واختاره القفال والزمخشري . والآية تدل على أنه شيء يضبط السماوات والأرض ولا يتوقف التسليم بها على تعيينه والقول بأنه علم أو ملك أو جسم كثيف أو لطيف ، أي فإن كان هو العلم الإلهي فالأمر ظاهر ، وإن كان خلقا آخر فهو من عالم الغيب الذي نؤمن به ولا نبحث عن حقيقته ولا نتكلم فيه بالرأي . كما قال كثيرون : إنه هو الفلك الثامن المكوكب من الأفلاك التسعة التي كان يقول بها فلاسفة اليونان ومقلدوهم فذلك من القول على الله بدون علم وهو من أمهات الكبائر .

                          ولا يئوده حفظهما أي لا يثقله حفظ هذه العوالم بما فيها ولا يشق عليه وهو العلي العظيم فيتعالى بذاته أن يكون شأنه كشأن البشر في حفظ أموالهم ، ويتنزه بعظمته عن الاحتياج إلى من يعلمه بحقيقة أحوالهم ، أو يستنزله إلى ما لم يكن يريد من مجازاتهم على أعمالهم . وأقول : إن جملة الآية تملأ القلب بعظمة الله وجلاله وكماله ، حتى لا يبقى فيه موضع للغرور بالشفعاء الذين يعظمهم المغرورون تعظيما خياليا غير معقول حتى ينسون أنهم بالنسبة إلى الله - تعالى - عبيد مربوبون ، أو عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون [ 21 : 27 ، 28 ] فمن تدبر هذه الآيات وأمثالها مما ورد في علم الله وعظمته [ ص: 29 ] وانفراده بالسلطة لا سيما في ذلك اليوم وهو يوم الدين ، فإن عظمته - تعالى - لا تدع في نفسه غرورا ، بل يوقن بأن لا سبيل إلى السعادة في الآخرة إلا بمرضاة الله - تعالى - في الدنيا ، فمن لم يكن مرضيا لله - تعالى - لا يتجرأ أحد على الشفاعة له كما تلوت في الآية الكريمة آنفا . واتل أيضا قوله - تعالى - عن ذلك اليوم : يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 : 108 - 113 ] وإنك لتجد المسلمين يترنمون بهذه الآيات وقلما تحدث لأحد منهم ذكرا يصرفه عن حمل الظلم لنفسه ولغيره ، والاعتماد في النجاة على وعد الله لمن يعمل الصالحات وهو مؤمن ، بل ترى الجماهير يعرضون عن هذا الذكر ويرجون النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة بالشفاعات فقط .


                          ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس



                          قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطا : جملة الآية وما في معناها إنذار للمسلمين أن يكونوا كأهل الكتاب الذين يتكلون في نجاتهم على شفاعة سلفهم فأوقعهم ذلك في ترك المبالاة بالدين ، ولكن المسلمين اتبعوا بعد ذلك سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وسبقوهم في الاتكال على الشفاعة وما يترتب عليه من التهاون بالدين ، كما نرى هذه القلوب التي خويت من ذكر الله وخلت من خشيته للجهل بما يجب من معرفته وهي على خطر الهلاك الأبدي ، وهذه النفوس المنغمسة في أقذار الشهوات ، المسترسلة في فعل المنكرات ، وهي تشعر بأنها على شفير جهنم تريد أن تتلهى بما يصمها عن سماع نذير الشريعة للفطرة التي أفسدتها الجهالات والأهواء ; لكيلا تتألم بما ينغص عليها لذاتها ، أو يحتم عليها طاعة ربها ، فلا ترى ألوهية تضيفها إلى الدين ، ويرتضيها رؤساؤه الرسميون إلا كلمة الشفاعة التي تزعم أنها تعظم بها النبيين والصديقين ، وإن جعلتها بمعنى وثني يخل بعظمة رب العالمين ، وكل من اغتر بذلك فشيطانه هو الذي يوسوس له ويمده في الغي ، وإنها لنفوس ما عرفت عظمة الله ولا شعرت بالحياء منه في حياتها ولا ظهر في أعمالها أثر محبته ، ولا احترام دينه وشريعته ، وما أثر الإيمان به والحب له والرجاء بفضله إلا أخذ دينه بقوة وجد . وآيته بذل المال والروح في إعلاء كلمته ، وتأييد شريعته ، لا الامتنان عليه وعلى رسوله بقبول لقب الإسلام ، وتعظيمه بالقول والخيال ، دون القلوب والأعمال ، والقرآن شاهد عدل إنه لقول فصل وما هو بالهزل [ 86 : 13 : 14 ] .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية