الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( فصل في حكمة تحريم الربا ) قال الأستاذ الإمام في الدرس ما مثاله : يقول كثير من الناس الذين تعلموا وتربوا تربية عصرية وأخذوا الشهادات من المدارس ، بل ومن هم أكبر من هؤلاء : إن المسلمين منوا بالفقر ، وذهبت أموالهم إلى أيدي الأجانب وفقدوا الثروة والقوة بسبب تحريم الربا ، فإنهم لاحتياجهم للأموال يأخذونها بالربا من الأجانب ، ومن كان غنيا منهم لا يعطي بالربا . فمال الفقير يذهب ومال الغني لا ينمو ، ويجعلون هذه المسألة أهم المسائل الاجتماعية والعمرانية عند المسلمين ، يعنون أنه ما جنى على المسلمين إلا دينهم . ( قال ) وهذه أوهام لم تقل عن اختبار ; فإن المسلمين في هذه الأيام لا يحكمون الدين في شيء من أعمالهم ومكاسبهم ولو حكموه في هذه المسألة لما استدانوا بالربا وجعلوا أموالهم غنائم لغيرهم ، فإن سلمنا أنهم تركوا أكل الربا لأجل الدين فهل يقول المشتبهون : إنهم تركوا الصناعة والتجارة والزراعة لأجل الدين ؟ ألم تسبقنا جميع الأمم إلى إتقان ذلك ؟ فلماذا لم نتقن سائر أعمال الكسب لنعوض منها على أنفسنا ما فاتنا من كسب الربا المحرم علينا ؟ وديننا يدعونا إلى أن نسبق الأمم في إتقان كل شيء .

                          الحق أن المسلمين في الأغلب قد نبذوا الدين ظهريا ، فلم يبق عندهم منه إلا تقاليد وعادات أخذوها بالوراثة عن آبائهم ومعاشريهم ، فمن يدعي أن الدين عائق لهم عن الترقي فقد عكس القضية وأضاف إلى جهالاتهم جهالة شرا منها ، وإنما يجيء هذا من عدم البصيرة والتأمل في حالة الأمة من بدايتها إلى ما انتهت إليه ، ولو عرفت الأمة نفسها لعرفت ماضيها كما تعرف حاضرها ، ولكن جهلها بنفسها وعدم قراءة ماضيها هو الذي أوقعها فيما هي فيه من البلاء العظيم . فهي لا تدري من أين أخذت ولا كيف سقطت بعد ما ارتفعت . أقول : يعني أنها ارتفعت بالدين وسقطت بتركه مع الجهل بالسبب ، وأفضى بها الجهل إلى أن صارت تجعل علة الرقي والارتفاع ، هي عين العلة للسقوط والانحطاط ، ومن ذلك استدانة أفرادنا وحكوماتنا من الأجانب بالربا ; فإنها أضاعت ثروتنا وملكنا ، وكان الدين - لو اتبعناه - عاصما منها ، فنحن ننسى مثل هذه الفائدة الكبرى للدين في الموضوع نفسه ، ونذكر من سيئات الدين أنه حرم الربا ولو لم يحرمه لجاز أن يكسب بعض أغنيائنا أكثر مما يكسبون الآن . وقد أشار الأستاذ إلى هذا المعنى فقال : إن أثر الربا فينا لا يمكننا أن نزيله بمئات من السنين ، ولو أننا حافظنا على أمر الدين فيه لكنا بقينا لأنفسنا ، فتأمل قوله : ( بقينا لأنفسنا ) .

                          [ ص: 90 ] وقال في تفسير : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا إلخ ما مثاله : مسألة الربا مسألة كبيرة اتفقت فيها الأديان ، ولكن اختلفت فيها الأمم : فاليهود كانوا يرابون مع غيرهم . والنصارى يرابي بعضهم بعضا ، ويرابون سائر الناس . وقد كان المسلمون حفظوا أنفسهم من هذه الرذيلة زمنا طويلا . ثم قلدوا غيرهم . ومنذ نصف قرن فشت المراباة بينهم في أكثر الأقطار ، وكانوا قبل ذلك يأكلون الربا بالحيلة التي يسمونها شرعية ، وقد أباحها بعض الفقهاء في استثمار مال اليتيم ، وطالب العلم المنقطع ، ومنها مسألة السبحة المشهورة وهي أن يتفق الدائن مع المدين على أن يعطيه مائة إلى سنة بمائة وعشرة مثلا فيعطيه المائة نقدا ويبيعه سبحة بعشرة في الذمة ، فيشتريها ثم يهديها إليه . على أن الذين يأكلون الربا من المسلمين لا يزالون قليلين جدا ، ولكن الذين يؤكلونه غيرهم كثيرون جدا ، حتى لا تكاد تجد متمولا في هذه البلاد سالما من الاستدانة بالربا إلا قليلا ، والسبب في ذلك تقليد حكامهم في هذه السنة . بل كثيرا ما كان حكام هذه البلاد يلزمون الرعية بها إلزاما لأداء ما يفرضونه عليهم من الضرائب والمصادرات ، ومن هنا نرى أن الأديان لم يمكنها أن تقاوم ميل جماهير الناس إلى أكل الربا . حتى كأنه ضرورة يضطرون إليها ، ومن حجتهم عليها أن البيع مثل الربا ، فكما يجوز أن يبيع الإنسان السلعة التي ثمنها عشرة دراهم نقدا بعشرين درهما نسيئة يجوز له أن يعطي المحتاج العشرة الدراهم على أن يرد إليه بعد سنة عشرين درهما ; لأن السبب في كل من الزيادتين الأجل . هكذا يحتج الناس في أنفسهم كما تحتج الحكومات بأنها لو لم تأخذ المال بالربا لاضطرت إلى تعطيل مصالحها أو خراب أرضها .

                          والله - تعالى - قد أجاب عن دعوى مماثلة البيع للربا بجواب ليس على طريقة أجوبة الخطباء المؤثرين ، ولا على طريقة أقيسة الفلاسفة والمنطقيين ، ولكنه على سنة هداية الدين ، وهو أن الله أحل البيع وحرم الربا . وقد جعل أكثر المفسرين هذا الجواب من قبيل إبطال القياس بالنص ، أي إنكم تقيسون في الدين والله - تعالى - لا يجيز هذا القياس ، ولكن المعهود في القرآن مقارعة الحجة بالحجة ، وقد كان الناس في زمن التنزيل يفهمون معنى الحجة في رد القرآن لذلك القول ; إذ لم يكن عندهم من الاصطلاحات الفقهية المسلمة ما هو أصل عندهم في المسائل لا يفهمون الآيات إلا به ينظرون إليها إلا لتحويلها إليه وتطبيقها على آرائهم ومذاهبهم فيه ، والمعنى الصحيح أن زعمهم مساواة الربا للبيع في مصلحة التعامل بين الناس إنما يصح إذا أبيح للناس أن يكونوا في تعاملهم كالذئاب ، كل واحد ينتظر الفرصة التي تمكنه من افتراس الآخر وأكله ، ولكن هاهنا إله رحيم يضع لعباده من الأحكام ما يربيهم على التراحم والتعاطف ، وأن يكون كل منهم عونا للآخر لا سيما عند شدة الحاجة إليه ; ولذلك حرم عليهم الربا الذي هو استغلال ضرورة إخوانهم ، وأحل البيع الذي لا يختص الربح فيه بأكل [ ص: 91 ] الغني الواجد الفقير الفاقد . فهذا وجه للتباين بين الربا والبيع يقتضي فساد القياس .

                          وهناك وجه آخر وهو أن الله - تعالى - جعل طريق تعامل الناس في معايشهم أن يكون استفادة كل واحد من الآخر بعمل ولم يجعل لأحد منهم حقا على آخر بغير عمل ; لأنه باطل لا مقابل له ، وبهذه السنة أحل البيع لأن فيه عوضا يقابل عوضا ، وحرم الربا لأنه زيادة لا مقابل لها ، والمعنى أن قياسكم فاسد لأن في البيع من الفائدة ما يقتضي حله ، وفي الربا من المفسدة ما يقتضي تحريمه ، ذلك أن البيع يلاحظ فيه دائما انتفاع المشتري بالسلعة انتفاعا حقيقيا لأن من يشتري قمحا مثلا فإنه يشتريه ليأكله أو ليبذره أو ليبيعه وهو في كل ذلك ينتفع به انتفاعا حقيقيا ( وأقول : والثمن في هذا مقابل للمبيع مقابلة مرضية للبائع والمشتري باختيارهما ) وأما الربا وهو عبارة عن إعطاء الدراهم والمثليات وأخذها مضاعفة في وقت آخر فيما يؤخذ منه زيادة رأس المال لا مقابل له من عين ولا عمل ( أقول : وهي لا تعطى بالرضا والاختيار ، بل بالكره والاضطرار ) .

                          وثم وجه ثالث لتحريم الربا من دون البيع وهو أن النقدين إنما وضعا ليكونا ميزانا لتقدير قيم الأشياء التي ينتفع بها الناس في معايشهم . فإذا تحول هذا وصار النقد مقصودا بالاستغلال فإن هذا يؤدي إلى انتزاع الثروة من أيدي أكثر الناس وحصرها في أيدي الذين يجعلون أعمالهم قاصرة على استغلال المال بالمال ، فينمو المال ويربو عندهم ويخزن في الصناديق والبيوت المالية المعروفة بالبنوك ، ويبخس العاملون قيم أعمالهم لأن الربح يكون معظمه من المال نفسه وبذلك يهلك الفقراء . ولو وقف الناس في استغلال المال عند حد الضرورة لما كان فيه مثل هذه المضرات ، ولكن أهواء الناس ليس لها حد تقف عنده بنفسها ( أي فلا بد لها من الوازع الذي يوقفها بالإقناع أو الإلزام ) لذلك حرم الله الربا ، وهو لا يشرع للناس الأحكام بحسب أهوائهم وشهواتهم كأصحاب القوانين ، ولكن بحسب المصلحة الحقيقية العامة الشاملة ، وأما واضعو القوانين فإنهم يضعون للناس الأحكام بحسب حالهم الحاضرة التي يرونها موافقة لما يسمونه الرأي العام من غير نظر في عواقبها ، ولا في أثرها في تربية الفضائل والبعد عن الرذائل ، وإننا نرى البلاد التي أحلت قوانينها الربا قد عفت فيها رسوم الدين ، وقل فيها التعاطف والتراحم ، وحلت القسوة محل الرحمة حتى إن الفقير فيها يموت جوعا ولا يجد من يجود عليه بما يسد رمقه ، فمنيت من جراء ذلك بمصائب أعظمها ما يسمونه المسألة الاجتماعية ، وهي مسألة تألب الفعلة والعمال على أصحاب الأموال واعتصابهم المرة بعد المرة لترك العمل وتعطيل المعامل والمصانع ، لأن أصحابها لا يقدرون عملهم قدره ، بل يعطونهم أقل مما يستحقونه ، وهم يتوقعون من عاقبة ذلك انقلابا كبيرا في العالم ; ولذلك [ ص: 92 ] قام كثير من فلاسفتهم وعلمائهم يكتبون الرسائل والأسفار في تلافي شر هذه المسألة ، وقد صرح كثير منهم بأنه لا علاج لهذا الداء إلا رجوع الناس إلى ما دعاهم إليه الدين ، وقد ألف تولستوي الفيلسوف الروسي كتابا سماه ( ما العمل ؟ ) وفيه أمور يضطرب لفظاعتها القارئ ، وقد قال في آخره : إن أوربا نجحت في تحرير الناس من الرق ولكنها غفلت عن رفع نير الدينار ( الجنيه ) عن أعناق الناس الذين ربما استعبدهم المال يوما ما .

                          قال الأستاذ رحمه الله - تعالى - : وهذه بلادنا قد ضعف فيها التعاطف والتراحم وقل الإسعاد والتعاون مذ فشا فيها الربا ، وإنني لأعي وأدرك ما مر بي منذ أربعين سنة ، كنت أرى رجلا يطلب من الآخر قرضا فيأخذه صاحب المال إلى بيته ويوصد الباب عليه معه ، ويعطيه ما طلب بعد أن يستوثق منه باليمين أنه لا يحدث الناس بأنه اقترض منه ; لأنه يستحي أن يكون في نظرهم متفضلا عليه ( قال ) : رأيت هذا من كثيرين في بلاد متعددة ، ورأيت من وفاء من يقترض أنه يغني المقرض عن المطالبة ، بل المحاكمة . ثم بعد خمس وعشرين سنة رأيت بعض هؤلاء المحسنين لا يعطي ولده قرضا طلبه إلا بسند وشهود . فسألته : أما أنت الذي كنت تعطي الغرباء ما يطلبون والباب مقفل ، وتقسم عليهم أو تحلفهم ألا يذكروا ذلك ؟ قال : نعم . قلت : فما بالك تستوثق من ولدك ولا تأمنه على مالك إلا بسند وشهود وما علمت عليه من سوء ؟ قال : لا أعرف سبب ذلك إلا أنني لا أجد الثقة التي كنت أعرفها في نفسي . قلت : وقد أخبرني أن هذا الذي سأل منه عن ذلك هو والده - رحمهما الله تعالى - . هذا ما قاله الأستاذ الإمام في حكمة تحريم الربا ، وما قاله في مضرة استغلال النقد - مأخوذ من كلام للإمام الغزالي ومطبق على حال العصر . وإنني أورد عبارة الغزالي فيه من كتاب الشكر من ( الإحياء ) لما فيها من الحسن والفوائد ، قال - رحمه الله تعالى - :

                          " من نعم الله - تعالى - خلق الدراهم والدنانير ، وبهما قوام الدنيا ، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما . ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته ، وقد يعجز عما يحتاج إليه ، ويملك ما يستغنى عنه ، كمن يملك الزعفران مثلا وهو محتاج إلى جمل يركبه ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران ، فلا بد بينهما من معاوضة ، ولا بد في مقدار العوض من تقدير ، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران ، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال : يعطى منه مثله في الوزن أو الصورة ، وكذا من يشتري دارا بثياب أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار ، فهذه الأشياء لا تناسب فيها ، فلا يدرى أن الجمل كم يساوي بالزعفران فتتعذر المعاملات جدا . فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة إلى متوسط بينهما يحكم فيها بحكم عدل فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته حتى إذا تقررت المنازل وترتبت الرتب ، [ ص: 93 ] علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي ، فخلق الله - تعالى - الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما ، فيقال : هذا الجمل يساوي مائة دينار ، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة ، فهما من حيث إنهما متساويان بشيء واحد إذا متساويان ، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما ، ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له فلا ينتظم الأمر ، فإذا خلقهما الله - تعالى - لتتداولهما الأيدي ويكونا حاكمين بين الأموال بالعدل ، ولحكمة أخرى وهي التوسل بهما إلى سائر الأشياء لأنهما عزيزان في أنفسهما ، ولا غرض في أعيانهما ، ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة ، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب ، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب لأن غرضه في دابة مثلا ، فاحتيج إلى شيء آخر في صورته كأنه ليس بشيء وهو في معناه ، كأنه كل الأشياء ، والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات ، إذ لم تكن له صورة خاصة يفيدها بخصوصها كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون . فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى غرض ، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره ، فهذه هي الحكمة الثانية . وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها ، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله - تعالى - فيهما ، فإذا كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما ، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه ; لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم ولا يحصل الغرض المقصود به ، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة ولا لعمرو خاصة ، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما فإنهما حجران ، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس وعلامة معرفة المقادير مقومة للمراتب ، فأخبر الله - تعالى - الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية المكتوبة على صفحات الموجودات بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت الذي لا يدرك بعين البصر بل بعين البصيرة ، أخبر هؤلاء العاجزين بكلام سمعوه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى وصل إليهم بواسطة الحرف والصوت - المعنى الذي عجزوا عن إدراكه فقال تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم [ 9 :34 ] وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة ، وكان أسوأ حالا ممن كنز ; لأن مثال هذا مثال من استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال التي يقوم بها أخساء الناس والحبس أهون منه ، وذلك أن الخزف والحديد والرصاص والنحاس تنوب مناب الذهب والفضة في حفظ المائعات عن أن تتبدد وإنما الأواني لحفظ المائعات ، ولا يكفي الخزف والحديد في المقصود الذي أريد به النقود ، فمن لم ينكشف [ ص: 94 ] له هذا انكشف له بالترجمة الإلهية . وقيل له : من شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم .

                          وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم ; لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما ، إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة ; إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ، ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاما ودابة ، إذ لا يباع الطعام والدابة بالثوب ، فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما ، وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام ، كما قال النحويون : إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره ، وكموقع المرآة من الألوان ، فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله لبقي النقد متقيدا عنده وينزل منزلته المكنوز . وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم ، كما أن حبسه ظلم ، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار وهو ظلم " انتهى المراد من كلام الغزالي ويليه حكم تحريم أنواع الربا كلها .

                          من تدبر ما قاله الإمامان علم أن تحريم الربا هو عين الحكمة والرحمة الموافق لمصلحة البشر المنطبق على قواعد الفلسفة ، وأن إباحته مفسدة من أكبر المفاسد للأخلاق وشئون الاجتماع ، زادت في أطماع الناس وجعلتهم ماديين لا هم لهم إلا الاستكثار من المال وكادت تحصر ثروة البشر في أفراد منهم وتجعل بقية الناس عالة عليهم ، فإذا كان المفتونون من المسلمين بهذه المدنية ينكرون من دينهم تحريم الربا بغير فهم ولا عقل فسيجيء يوم يقر فيه المفتونون بأن ما جاء به الإسلام هو النظام الذي لا تتم سعادة البشر في دنياهم - فضلا عن آخرتهم - إلا به ، يوم يفوز الاشتراكيون في الممالك الأوربية ويهدمون أكثر دعائم هذه الأثرة المادية ، ويرغمون أنوف المحتكرين للأموال ويلزمونهم برعاية حقوق المساكين والعمال .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية