الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الوظيفة الخامسة - الإمساك عن التصرف في ألفاظ واردة ) ويجب على عموم الخلق الجمود على ألفاظ هذه الأخبار والإمساك عن التصرف فيها من ستة أوجه : التفسير والتأويل والتصريف والتفريع . . . إلخ .

                          ( الأول التفسير ) وأعني به تبديل اللفظ بلغة أخرى يقوم مقامها في العربية أو معناها بالفارسية أو التركية ، بل لا يجوز النطق إلا باللفظ الوارد ; لأن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها ، ومنها ما يوجد لها فارسية تطابقها لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها ، ومنها ما يكون مشتركا في العربية ولا يكون [ ص: 177 ] في العجمية كذلك ( أما الأول ) فمثاله لفظ الاستواء فإنه ليس له في الفارسية لفظ مطابق يؤدي بين الفرس من المعنى الذي يؤديه لفظ الاستواء بين العرب بحيث لا يشتمل على مزيد إبهام إذ فارسيته أن يقال : راست بايستاد ، وهذان لفظان : ( الأول ) ينبئ عن انتصاب واستقامة فيما يتصور أن ينحني ويعوج ( والثاني ) ينبئ عن سكون وثبات فيما يتصور أن يتحرك ويضطرب ، وإشعاره بهذه المعاني وإشارته إليها في العجمية أظهر من إشعار لفظ الاستواء وإشارته إليها ، فإذا تفاوت في الدلالة والإشعار لم يكن هذا مثل الأول ، وإنما يجوز تبديل اللفظ بمثله المرادف له الذي لا يخالفه بوجه من الوجوه إلا بما لا يباينه ولا يخالفه ولو بأدنى شيء وأدقه وأخفاه ( مثال الثاني ) أن الإصبع يستعار في لسان العرب للنعمة ، يقال : لفلان عندي إصبع : أي نعمة ، ومعناها بالفارسية انكشت ، وما جرت عادة العجم بهذه الاستعارة ، وتوسع العرب في التجوز والاستعارة أكثر من توسع العجم ، بل لا نسبة لتوسع العرب إلى جمود العجم ، فإذا حسن إيراد المعنى المستعار له في العرب وسمج ذلك في العجم نفر القلب عما سمج ومجه السمع ولم يمل إليه ، فإذا تفاوتا لم يكن التفسير تبديلا بالمثل بل بالخلاف ، ولا يجوز التبديل إلا بالمثل ( مثال الثالث ) العين ، فإن من فسره فإنما يفسره بأظهر معانيه فيقول : هو جسم - وهو مشترك - في لغة العرب بين العضو الباصر وبين الماء والذهب والفضة ، وليس للفظ جسم - وهو مشترك - هذا الاشتراك وكذلك لفظ الجنب والوجه يقرب منه ، فلأجل هذا نرى المنع من التبديل والاقتصار على العربية . فإن قيل : هذا التفاوت إن ادعيتموه في جميع الألفاظ فهو غير صحيح ، إذ لا فرق بين قولك خبز ونان ، وبين قولك لحم و كوشت ، وإن اعترف بأن ذلك في البعض فامنع من التبديل عند التفاوت لا عند التماثل ، فالجواب الحق أن التفاوت في البعض لا في الكل ، فلعل لفظ اليد ولفظ دست يتساويان في اللغتين وفي الاشتراك والاستعارة وسائر الأمور ، ولكن إذا انقسم إلى ما يجوز وإلى ما لا يجوز - وليس إدراك التمييز بينهما والوقوف على دقائق التفاوت جليا سهلا يسيرا على كافة الخلق ، بل يكثر فيه الإشكال ولا يتميز محل التفاوت عن محل التعادل - فنحن بين أن نحسم الباب احتياطا إذ لا حاجة ولا ضرورة إلى التبديل وبين أن نفتح الباب ونقحم عموم الخلق ورطة الخطر ، فليت شعري أي الأمرين أحزم وأحوط ، والمنظور فيه ذات الإله وصفاته ؟ وما عندي أن عاقلا متدينا لا يقر بأن هذا الأمر مخطر ، فإن الخطر في الصفات الإلهية يجب اجتنابه ، كيف وقد أوجب الشرع على الموطوءة العدة لبراءة الرحم وللحذر من خلط الأنساب احتياطا لحكم الولاية والوراثة وما يترتب على النسب ، فقالوا مع ذلك تجب العدة على العقيم والآيسة والصغيرة وعند العزل ; لأن باطن الأرحام إنما يطلع عليه علام الغيوب فإنه يعلم ما في الأرحام ، فلو فتحنا باب النظر إلى التفصيل كنا [ ص: 178 ] راكبين متن الخطر ، فإيجاب العدة حيث لا علوق أهون من ركوب هذا الخطر ، فكما أن إيجاب العدة حكم شرعي فتحريم تبديل العربية حكم شرعي ثبت بالاجتهاد وترجيح طريق الأولى ، ويعلم أن الاحتياط في الخبر عن الله وعن صفاته وعما أراده بألفاظ القرآن أهم وأولى من الاحتياط في العدة ومن كل ما احتاط به الفقهاء من هذا القبيل .

                          ( أما التصرف الثاني بالتأويل ) وهو بيان معناه بعد إزالة ظاهره ، وهذا إما أن يقع من العامي نفسه ، أو من العارف مع العامي ، أو من العارف مع نفسه بينه وبين ربه ، فهذه ثلاثة مواضع ( الأول ) تأويل العامي على سبيل الاشتغال بنفسه وهو حرام يشبه خوض البحر المغرق ممن لا يحسن السباحة ، ولا شك في تحريم السباحة ، ولا شك في تحريم ذلك ، وبحر معرفة الله أبعد غورا وأكثر معاطب ومهالك من بحر الماء ; لأن هلاك هذا البحر لا حياة بعده ، وهلاك بحر الدنيا لا يزيل إلا الحياة الفانية وذلك يزيل الحياة الأبدية فشتان بين الخطرين .

                          ( الموضع الثاني ) أن يكون ذلك من العالم مع العامي وهو أيضا ممنوع . ومثاله أن يجر السباح الغواص في البحر مع نفسه آخر عاجزا عن السباحة مضطرب القلب والبدن . وذلك حرام " لأنه عرضه لخطر الهلاك ; فإنه لا يقوى على حفظه في لجة البحر ، وإن قدر على حفظه في القرب من الساحل ، ولو أمره بالوقوف بقرب الساحل لا يطيعه ، وإن أمره بالسكوت عند التطام الأمواج وإقبال التماسيح وقد فغرت فاها للانتقام ، اضطرب قلبه وبدنه ولم يسكن على حسب مراده لقصور طاقته وهذا هو المثال الحق للعالم إذا فتح للعامي باب التأويلات والتصرف في خلاف الظواهر . وفي معنى العوام الأديب والنحوي والمحدث والمفسر والفقيه والمتكلم ، بل كل عالم سوى المتجردين لتعلم السباحة في بحار المعرفة ، القاصرين أعمارهم عليه ، الصارفين وجوههم عن الدنيا والشهوات المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات ، والمخلصين لله - تعالى - في العلوم والأعمال العاملين بجميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المنكرات المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله - تعالى - لله ، المستحقرين للدنيا بل الآخرة والفردوس الأعلى في جنب محبة الله تعالى ، فهؤلاء هم أهل الغوص في بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم ، يهلك من العشرة تسعة إلى أن يسعد واحد بالدر المكنون والسر المخزون ، أولئك الذين سبقت لهم من الله الحسنى فهم الفائزون ، وربك أعلم بما تكن صدورهم وما يعلنون ( الموضع الثالث ) تأويل العارف مع نفسه في سر قلبه بينه وبين ربه . وهو على ثلاثة أوجه ، فإن الذي انقدح في سره أنه المراد من لفظ الاستواء والفوق مثلا ، إما أن يكون مقطوعا به أو مشكوكا فيه أو مظنونا ظنا غالبا ، فإن كان قطعيا فليعتقده وإن كان مشكوكا فليجتنبه ، ولا يحكمن على مراد الله - تعالى - ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - من كلامه باحتمال يعارضه مثله من غير ترجيح ، بل الواجب على الشاك التوقف . وإن كان مظنونا فاعلم أن للظن متعلقين : ( أحدهما ) أن المعنى الذي انقدح عنده هل هو جائز في حق الله - تعالى - أو هو محال ؟ .

                          [ ص: 179 ] ( والثاني ) أن يعلم قطعا جوازه لكن تردد في أنه هل هو مراد أم لا ( مثال الأول ) تأويل لفظ الفوق بالعلو المعنوي الذي هو المراد بقولنا السلطان فوق الوزير ، فإنا لا نشك في ثبوت معناه لله - تعالى - ، لكنا ربما نتردد في أن لفظ الفوق في قوله : يخافون ربهم من فوقهم [ 16 : 50 ] هل أريد به العلو المعنوي أم أريد به معنى آخر يليق بجلال الله - تعالى - دون العلو بالمكان الذي هو محال على ما ليس بجسم ولا هو صفة في جسم ( ومثال الثاني ) تأويل لفظ الاستواء على العرش بأنه أراد به النسبة الخاصة التي للعرش ، ونسبته أن الله - تعالى - يتصرف في جميع العالم ويدبر الأمر من السماء إلى الأرض بواسطة العرش فإنه لا يحدث في العالم صورة ما لم يحدثه في العرش ، كما لا يحدث النقاش والكاتب صورة وكلمة على البياض ما لم يحدثه في الدماغ ، بل لا يحدث البناء صورة الأبنية ما لم يحدث صورتها في الدماغ ; فبواسطة الدماغ يدبر القلب أمر عالمه الذي هو بدنه فربما نتردد في أن إثبات هذه النسبة للعرش إليه - تعالى - هل هو جائز إما لوجوبه في نفسه ، أو لأنه أجرى به سنته وعادته ، وإن لم يكن خلافه محالا كما أجرى عادته في حق قلب الإنسان بألا يمكنه التدبير إلا بواسطة الدماغ ، وإن كان في قدرة الله - تعالى - تمكينه منه دون الدماغ لو سبقت به إرادته الأزلية ، وحقت به الكلمة القديمة التي هي علمه ، فصار خلافه ممتنعا لا القصور في ذات القدرة لكن لاستحالة ما يخالف الإرادة القديمة والعلم السابق الأزلي ; ولذلك قال : ولن تجد لسنة الله تبديلا [ 33 : 62 ] وإنما لا تتبدل لوجوبها وإنما وجوبها لصدورها عن إرادة أزلية واجبة ، ونتيجة الواجب واجبة ونقيضها محال وإن لم يكن محالا في ذاته ولكنه محال لغيره وهو إفضاؤه إلى أن ينقلب العلم الأزلي جهلا ، ويمتنع نفوذ المشيئة الأزلية ، فإذن إثبات هذه النسبة لله - تعالى - مع العرش في تدبير المملكة بواسطته إن كان جائزا عقلا فهل هو واقع وجودا ؟ هذا مما قد يتردد فيه الناظر ، وربما يظن وجود هذا مثال الظن في نفس المعنى والأول مثال الظن في كون المعنى مرادا باللفظ ، مع كون المعنى في نفسه صحيحا جائزا وبينهما فرقان ، لكن كل واحد من الظنين إذا انقدح في النفس وحاك في الصدر فلا يدخل تحت الاختيار دفعه عن النفس ولا يمكنه ألا يظن ; فإن للظن أسبابا ضرورية لا يمكن دفعها ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لكن عليه وظيفتان :

                          ( إحداهما ) ألا يدع نفسه تطمئن إليه جزما من غير شعور بإمكان الغلط فيه ولا ينبغي أن يحكم مع نفسه بموجب ظنه حكما جازما .

                          ( والثانية ) : أنه إن ذكره لم يطلق القول بأن المراد بالاستواء كذا أو المراد بالفوق كذا لأنه حكم بما لا يعلم وقد قال الله - تعالى - : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 : 36 ] لكن يقول : أنا أظن أنه كذا فيكون صادقا في خبره عن نفسه وعن ضميره ولا يكون حكما على صفة الله ولا على مراده بكلامه ، بل حكما على نفسه ونبأ عن ضميره .

                          [ ص: 180 ] فإن قيل : وهل يجوز ذكر هذا الظن مع كافة الخلق والتحدث به كما اشتمل عليه ضميره ؟ وكذلك لو كان قاطعا فهل له أن يتحدث به ؟ قلنا : تحدثه به إنما يكون على أربعة أوجه : فإما أن يكون مع نفسه أو مع من هو مثله في الاستبصار ، أو مع من هو مستعد للاستبصار بذكائه وفطنته وتجرده لطلب معرفة الله - تعالى - أو مع العامي ، فإن كان قاطعا فله أن يحدث نفسه به ويحدث من هو مثله في الاستبصار أو من هو متجرد لطلب المعرفة مستعد له خال عن الميل إلى الدنيا والشهوات والتعصبات للمذاهب وطلب المباهاة بالمعارف والتظاهر بذكرها مع العوام ، فمن اتصف بهذه الصفات فلا بأس بالتحدث معه ; لأن الفطن المتعطش إلى المعرفة للمعرفة لا لغرض آخر يحيك في صدره إشكال الظواهر وربما يلقيه في تأويلات فاسدة لشدة شرهه على الفرار عن مقتضى الظواهر ، ومنع العلم أهله ظلم كبثه إلى غير أهله .

                          وأما العامي فلا ينبغي أن يحدث به ، وفي معنى العامي كل من لا يتصف بالصفات المذكورة ، بل مثاله ما ذكرناه من إطعام الرضيع الأطعمة القوية التي لا يطيقها ، وأما المظنون فتحدثه مع نفسه اضطرار ، فإن ما ينطوي عليه الذهن من ظن وشك وقطع لا تزال النفس تتحدث به ولا قدرة على الخلاص منه فلا منع منه ، فلا شك في منع التحدث به مع العوام ، بل هو أولى بالمنع من المقطوع ، أما تحدثه مع من هو في مثل درجته في المعرفة أو مع المستعد له ففيه نظر ، فيحتمل أن يقال : هو جائز ، ولا يزيد على أن يقول : أظن كذا ، وهو صادق ، ويحتمل المنع ; لأنه قادر على تركه وهو بذكره متصرف بالظن في صفة الله - تعالى - أو في مراده من كلامه وفيه خطر ، وإباحته تعرف بنص أو إجماع أو قياس على منصوص ، ولم يرد شيء من ذلك ، بل ورد قوله - تعالى - : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 : 36 ] فإن قيل : يدل على الجواز ثلاثة أمور : ( الأول ) الدليل الذي دل على إباحة الصدق وهو صادق فإنه ليس يخبر إلا عن ظنه وهو ظان ( والثاني ) أقاويل المفسرين في القرآن بالحدس والظن ، إذ كل ما قالوه غير مسموع من الرسول - عليه السلام - ، بل هو مستنبط بالاجتهاد ; ولذلك كثرت الأقاويل وتعارضت ( والثالث ) إجماع التابعين على نقل الأخبار المتشابهة التي نقلها آحاد الصحابة ولم تتواتر وما اشتمل عليه الصحيح الذي نقله العدل عن العدل ، فإنهم جوزوا روايته ولا يحصل بقول العدل إلا الظن . ( والجواب عن الأول ) أن المباح صدق لا يخشى منه ضرر ، وبث هذه الظنون لا يخلو عن ضرر ، فقد يسمعه من يسكن إليه ويعتقده جزما فيحكم في صفات الله - تعالى - بغير علم وهو خطر ، والنفوس نافرة عن إشكال الظواهر ، فإذا وجد مستروحا من المعنى ولو كان مظنونا سكن إليه واعتقده جزما ، وربما يكون غلطا ، فيكون قد اعتقد في صفات الله - تعالى - بما هو الباطل أو حكم عليه في كلامه بما لم يرد به ( وأما الثاني ) وهو أقاويل المفسرين بالظن فلا نسلم ذلك فيما هو من صفات الله - تعالى - كالاستواء والفوق وغيره ، بل لعل ذلك في الأحكام الفقهية أو في حكايات أحوال [ ص: 181 ] الأنبياء والكفار والمواعظ والأمثال وما لا يعظم خطر الخطأ فيه ( وأما الثالث ) فقد قال قائلون : لا يجوز أن يعتمد في هذا الباب إلا ما ورد في القرآن أو تواتر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تواترا يفيد العلم ، فأما أخبار الآحاد فلا يقبل فيه ولا نشتغل بتأويله عند من يميل إلى التأويل ولا بروايته عند من يقتصر على الرواية ; لأن ذلك حكم بالمظنون واعتماد عليه ، وما ذكروه ليس ببعيد ، لكنه مخالف لظاهر ما درج عليه السلف ، فإنهم قبلوا هذه الأخبار من العدول ورووها وصححوها . فالجواب من وجهين :

                          ( أحدهما ) أن التابعين كانوا قد عرفوا من أدلة الشرع أن لا يجوز اتهام العدل بالكذب لا سيما في صفات الله - تعالى - ، فإذا روى الصديق - رضي الله عنه - خبرا وقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا ، فرد روايته تكذيب له ونسبة له إلى الوضع أو إلى السهو ، فقبلوه وقالوا : قال أبو بكر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال أنس : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا في التابعين ، فالآن إذا ثبت عندهم بأدلة الشرع أنه لا سبيل إلى اتهام العدل التقي من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فمن أين يجب ألا يتهم ظنون الآحاد ، وأن ينزل الظن منزلة نقل العدل مع أن بعض الظن إثم ؟ فإذا قال الشارع : ما أخبركم به العدل فصدقوه واقبلوه وانقلوه وأظهروه فلا يلزم من هذا أن يقال : ما حدثتكم به نفوسكم من ظنونكم فاقبلوه وأظهروه ، وارووا عن ظنونكم وضمائركم ونفوسكم ما قالته ، فليس هذا في معنى المنصوص ; ولهذا نقول : ما رواه غير العدل من هذا الجنس ينبغي أن يعرض عنه ولا يروى ، ويحتاط في المواعظ والأمثال وما يجري مجراها .

                          ( والجواب الثاني ) أن تلك الأخبار روتها الصحابة لأنهم سمعوها يقينا ، فما نقلوا إلا ما تيقنوه ، والتابعون قبلوه ورووه ، وما قالوا : قال رسول الله - عليه السلام - كذا ، بل قالوا : قال فلان قال رسول الله - عليه السلام - كذا وكانوا صادقين ، وما أهملوا روايته لاشتمال كل حديث على فوائد سوى اللفظ الموهم عند العارف معنى حقيقيا يفهمه منه ليس ذلك ظنيا في حقه : مثاله رواية الصحابي عن رسول الله - عليه السلام - قوله : ينزل الله - تعالى - كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من داع فأستجيب له ؟ هل من مستغفر فأغفر له ؟ الحديث فهذا الحديث سيق لنهاية الترغيب في قيام الليل ، وله تأثير عظيم في تحريك الدواعي للتهجد الذي هو أفضل العبادات ، فلو ترك هذا الحديث لبطلت هذه الفائدة العظيمة ولا سبيل إلى إهمالها ، وليس فيه إلا إبهام لفظ النزول عند الصبي والعامي الجاري مجرى الصبي ، وما أهون على البصير أن يغرس في قلب العامي التنزيه والتقديس عن صورة النزول بأن يقول له : إن كان نزوله إلى السماء الدنيا ليسمعنا نداءه وقوله فما أسمعنا ، فأي فائدة في نزوله ؟ ولقد كان يمكنه أن ينادينا كذلك وهو على العرش أو على السماء العليا ، فهذا القدر يعرف [ ص: 182 ] العامي أن ظاهر النزول باطل ، بل مثاله أن يريد من في المشرق إسماع شخص في المغرب ومناداته فتقدم إلى المغرب بأقدام معدودة وأخذ يناديه وهو يعلم أن لا يسمع فيكون نقله الأقدام عملا باطلا وفعلا كفعل المجانين ، فكيف يستقر مثل هذا في قلب عاقل ؟ بل يضطر بهذا القدر كل عامي إلى أن يتيقن نفي صورة النزول ، وكيف وقد علم استحالة الجسمية عليه ، واستحالة الانتقال على غير الأجسام كاستحالة النزول من غير انتقال ، فإذن الفائدة في نقل هذه الأخبار عظيمة ، والضرر يسير ، فأنى يساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس ؟

                          فهذه سبل تجاذب طرق الاجتهاد في إباحة ذكر التأويل المظنون أو المنع ، ولا يبعد ذكر وجه ثالث وهو أن ينظر إلى قرائن حال السائل والمستمع ، فإن علم أنه ينتفع به ذكره ، وإن علم أنه يتضرر تركه ، وإن ظن أحد الأمرين كان ظنه كالعلم في إباحة الذكر ، وكم من إنسان لا تتحرك داعيته باطنا إلى معرفة هذه المعاني ، ولا يحيك في نفسه إشكال من ظواهرها ، فذكر التأويل معه مشوش ، وكم من إنسان يحيك في نفسه إشكال الظاهر حتى يكاد أن يسوء اعتقاده في الرسول - عليه السلام - وينكر قوله الموهم ، فمثل هذا لو ذكر معه الاحتمال المظنون ، بل مجرد الاحتمال الذي ينبو عنه اللفظ انتفع به ولا بأس بذكره معه ، فإنه دواء لدائه ، وإن كان داء في غيره ، ولكن لا ينبغي أن يذكر على رءوس المنابر ; لأن ذلك يحرك الدواعي الساكنة من أكثر المستمعين ، وقد كانوا عنه غافلين وعن إشكاله منفكين ، ولما كان زمان السلف الأول زمان سكون القلب بالغوا في الكف عن التأويل خيفة من تحريك الدواعي وتشويش القلوب ، فمن خالفهم في ذلك الزمان فهو الذي حرك الفتنة ، وألقى هذه الشكوك في القلوب مع الاستغناء عنه فباء بالإثم ، أما الآن وقد فشا ذلك في بعض البلاد ، فالعذر في إظهار شيء من ذلك رجاء لإماطة الأوهام الباطلة عن القلوب أظهر ، واللوم عن قائله أقل .

                          فإن قيل : فقد فرقتم بين التأويل المقطوع والمظنون ، فبماذا يحصل القطع بصحة التأويل ؟ قلنا بأمرين : ( أحدهما ) أن يكون المعنى مقطوعا ثبوته لله - تعالى - كفوقية المرتبة ( والثاني ) ألا يكون اللفظ إلا محتملا لأمرين ، وقد بطل أحدهما وتعين الثاني ، مثاله قوله - تعالى - : وهو القاهر فوق عباده [ 6 : 18 ] فإنه إن ظهر في وضع اللسان أن الفوق لا يحتمل إلا فوقية المكان أو فوقية الرتبة ، ولما بطل فوقية المكان لمعرفة التقديس لم يبق إلا فوقية الرتبة ، كما يقال : السيد فوق العبد والزوج فوق الزوجة ، والسلطان فوق الوزير ، فالله فوق عباده بهذا المعنى ، وهذا كالمقطوع به في لفظ الفوق ، وأنه لا يستعمل في لسان العرب إلا في هذين المعنيين .

                          أما لفظ الاستواء إلى السماء وعلى العرش ربما لا ينحصر مفهومه في اللغة هذا الانحصار ، وإذا تردد بين ثلاثة معان : معنيان جائزان على الله - تعالى - ، ومعنى واحد هو الباطل ، فتنزيله على [ ص: 183 ] أحد المعنيين الجائزين أن يكون بالظن وبالاحتمال المجرد ، وهذا تمام النظر في الكف عن التأويل .

                          ( التصرف الثالث الذي يجب الإمساك عنه : التصريف ) ومعناه أنه إذا ورد قوله - تعالى - : استوى على العرش [ 13 : 2 ] فلا ينبغي أن يقال مستو ويستوي ; لأن دلالة قوله هو مستو على العرش على الاستقرار أظهر من قوله : رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش الآية ، بل هو كقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 : 29 ] فإن هذا يدل على استواء قد انقضى من إقبال على خلقه أو على تدبير المملكة بواسطته ، ففي تغيير التصاريف ما يوثق في تغيير الدلالات والاحتمالات ، فليجتنب التصريف كما يجتنب الزيادة ، فإن تحت التصريف الزيادة والنقصان .

                          ( التصريف الرابع الذي يجب الإمساك عنه : القياس والتفريع ) مثل أن يرد لفظ اليد فلا يجوز إثبات الساعد والعضد والكف مصيرا إلى أن هذا من لوازم اليد ، وإذا ورد الأصبع لم يجز ذكر اللحم والعظم والعصب وإن كانت اليد المشهورة لا تنفك عنه . وأبعد من هذه الزيادة إثبات الرجل عند ورود اليد ، وإثبات الفم عند ورود العين أو عند ورود الضحك ، وإثبات الأذن والعين عند ورود السمع والبصر ، وكل ذلك محال وكذب وزيادة ، وقد يتجاسر عليه بعض الحمقى من المشبهة الحشوية ; فلذلك ذكرناه .

                          ( التصرف الخامس : لا يجمع بين متفرق ) ولقد بعد عن التوفيق من صنف كتابا في جمع هذه الأخبار ورسم في كل عضو بابا ، فقال : باب في إثبات الرأس وباب في اليد إلى غير ذلك ، وسماه كتاب الصفات ، فإن هذه كلمات متفرقة صدرت من رسول الله - عليه السلام - في أوقات متفرقة متباعدة اعتمادا على قرائن مختلفة تفهم السامعين معاني صحيحة ، فإذا ذكرت مجموعة على مثال خلق الإنسان صار جمع تلك المتفرقات في السمع دفعة واحدة قرينة عظيمة في تأكيد الظاهر وإيهام التشبيه ، وصار الإشكال في أن الرسول - عليه السلام - لما نطق بما يوهم خلاف الحق أعظم في النفس وأوقع ، بل الكلمة الواحدة يتطرق إليها الاحتمال ، فإذا اتصل به ثانية وثالثة ورابعة من جنس واحد صار متواليا بضعف الاحتمال بالإضافة إلى الجملة ; ولذلك يحصل من الظن بقول المخبرين الثلاثة ما لا يحصل بقول الواحد ، بل يحصل من العلم القطعي بخبر التواتر ما لا يحصل بالآحاد ، ويحصل من العلم القطعي باجتماع التواتر ما لا يحصل بالآحاد . وكل ذلك نتيجة الاجتماع إذ يتطرق الاحتمال إلى قول كل عدل وإلى كل واحدة من القرائن ، فإذا انقطع الاحتمال أو ضعف فلذلك لا يجوز جمع المتفرقات .

                          [ ص: 184 ] ( التصرف السادس : التفريق بين المجتمعات ) فكما لا يجمع بين متفرقة فلا يفرق بين مجتمعة ، فإن كل كلمة سابقة على كلمة أو لاحقة لها مؤثرة في تفهيم معناه مطلقا ومرجحة الاحتمال الضعيف فيه ، فإذا فرقت سقطت دلالتها ، مثاله قوله - تعالى - : وهو القاهر فوق عباده [ 6 : 18 ] لا تسلط على أن يقول القائل : هو فوق ، لأنه إذا ذكر القاهر قبله ظهرت دلالة الفوق على الفوقية التي لقاهر مع المقهور ، وهي فوقية الرتبة ، ولفظ ( القاهر ) يدل عليه ، بل لا يجوز أن يقول وهو القاهر فوق غيره ، بل ينبغي أن يقول فوق عباده ; لأن ذكر العبودية في وصفه في الله فوقه يؤكد احتمال فوقية السيادة ، إذ يحسن أن يقال : زيد فوق عمرو قبل أن يتبين تفاوتهما في معنى السيادة والعبودية أو غلبة القهر أو نفوذ الأمر بالسلطة أو بالأبوة أو بالزوجية فهذه الأمور يغفل عنها العلماء فضلا عن العوام ، فكيف يسلط العوام في مثل ذلك على التصرف بالجمع والتفريق والتأويل والتفسير وأنواع التغيير ، ولأجل هذه الدقائق بالغ السلف في الجمود والاقتصار على موارد التوقيف كما ورد على الوجه الذي ورد ، وباللفظ الذي ورد ، والحق ما قالوه والصواب ما رأوه ، فأهم المواضع بالاحتياط ما هو تصرفه في ذات الله وصفاته وأحق المواضع بإلجام اللسان وتقييده عن الجريان فيما يعظم فيه الخطر ، وأي خطر أعظم من الكفر ؟

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية