الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها واصفا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام وهو أنهم يحبون أشد الناس عداوة لهم الذين لا يقصرون في إفساد أمرهم وتمني عنتهم على أن بغضاءهم لهم ظاهرة وما خفي منها أكبر مما ظهر ، أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود [ 5 : 82 ] إلخ . يعني أولئك اليهود المجاورين لهم في الحجاز .

                          أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين وإقرار القرآن إياهم على ذلك ; لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم ، هو أقوى البراهين ، على أن هذا الدين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح لا يمكن أن يصوب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك ؟ بلى ، ولكن وجد في الناس من ينكر عليه ذلك ويصفه بضده زورا وبهتانا ، بل تعصبا خروا عليه صما وعميانا .

                          من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان ؟ لا أقول إنهم النصارى الذين كانوا أجدر بحبنا وودنا من اليهود لقوله - تعالى - في تتمة الآية استشهدنا بها آنفا : ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى بل هم قسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام من حيث هو دين ، وساستها المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك . فأوروبا التي تتهم الإسلام - والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام - [ ص: 74 ] بالتعصب والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك ، فإنها لم تقو على إبادتهم حتى الآن ، ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم ، فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر تعصب أوروبا ولكنهم لا قوة لهم على الدفاع عن أنفسهم أمام أولئك المعتدين .

                          أما قوله - تعالى - : وتؤمنون بالكتاب كله فمعناه أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب سواء منه ما نزل عليكم وما نزل عليهم ، فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية أو النبيين الذين جاءوا بها ما يحملكم على بغض أهل الكتاب ، فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا ، وذكر بعضهم أن جملة تؤمنون حالية من قوله : ولا يحبونكم والمعنى أنهم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بكتابهم وكتابكم فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم ؟ فأنتم أحق ببغضهم ، أي ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم .

                          قال ( ابن جرير ) : " في هذه الآية إبانة من الله - عز وجل - عن حال الفريقين ، أعني المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم ، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان ، كما حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة : قوله : ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه ويرحمه ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه " . حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال : " المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن يرحمه ، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه " . اهـ .

                          فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون : إن المسلم خير للكافر وللمنافق منهما له حبا ورحمة ومعاملة . وكذلك قالوا في السني مع المبتدع كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، قالوا : إن من علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم ولا يقطعوا أخوته في الدين ; ولذلك يذكرون في كتب العقائد " لا نكفر أحدا من أهل القبلة " بل كان رواة الحديث من أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن يروون عن الخوارج والشيعة والمعتزلة لا يلتفتون إلى مذهب الراوي بل إلى عدالته في نفسه . ونتيجة هذا كله : أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسكه بالإيمان الصحيح وقربه من الحق والصواب فيه ، وكيف لا يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين : ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا كما نحتج [ ص: 75 ] على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم وفضلائهم ، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم ، أو في ظنونهم وأهوائهم ، والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين ، فاستحلوا هضم حقوق المخالفين لهم في الدين .

                          ثم قال - تعالى - شأنه مبينا لشأن طائفة منهم أسندها إليهم في الجملة على قاعدة تكافل الأمة وكونها كشخص واحد : وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين نفاقا وخداعا ، ومنهم من كان يظهره ثم يرجع عنه ليشكك المسلمين ، كما تقدم في آية " 72 " من هذه السورة وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التشفي سبيلا ، وعض الأنامل : كناية عن شدة الغيظ ، ويكنى به أيضا عن الندم قل موتوا بغيظكم فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد باعتصام أهله به إلا عزة وقوة وانتشارا ، وقال ابن جرير : " موتوا بغيظكم الذي على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم " فليعتبر المسلمون اليوم بهذا لعلهم يتذكرون أنه ما حل بهم ما حل من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع والائتلاف وبالتفرق بعد الاعتصام إن الله عليم بذات الصدور فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء وموجدة الحقد والحسد ، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشر المؤمنين من حب الخير والنصح لكم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية