الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إعجاز القرآن بأسلوبه ونظمه :

                          ( الوجه الأول ) : اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب ، والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من كلام العرب في مطالعه وفواصله ومقاطعه ، هذه عبارتهم وأوردوا عليها شبهتين وأجابوا عنهما ، وحصروا نظم الكلام منثوره مرسلا وسجعا ، ومنظومه قصيدا ورجزا في أربعة أنواع ، لا يمكن عد نظم القرآن وأسلوبه واحدا منها ، كما يدل عليه كلام الوليد بن المغيرة من أكبر بلغاء قريش الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعادوه استكبارا ، وجاحدوه استعلاء واستنكارا ، أخرجه الحاكم وصححه البيهقي في دلائل النبوة عن ابن عباس قال : ( ( إن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال : يا عم ، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله ، قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم [ ص: 166 ] بالشعر مني ، لا برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : والله ما يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ) ) وكان هذا سبب نزول قوله تعالى : ( ذرني ومن خلقت وحيدا ) الآيات .

                          ولعمري إن مسألة النظم والأسلوب لإحدى الكبر ، وأعجب العجائب لمن فكر وأبصر ، ولم يوفها أحد حقها ، على كثرة ما بدءوا وأعادوا فيها ، وما هو بنظم واحد ولا بأسلوب واحد ، وإنما هو مائة أو أكثر : القرآن مائة وأربع عشرة سورة متفاوتة في الطول والقصر ، من السبع الطول التي تزيد السورة فيه على المائة وعلى المائتين من الآيات ، إلى السور المئين ، إلى الوسطى من المفصل ، إلى ما دونها من العشرات فالآحاد كالثلاث الآيات فما فوقها ، وكل سورة منها تقرأ بالترتيل المشبه للتلحين ، المعين على الفهم المفيد للتأثير ، على اختلافها في الفواصل ، وتفاوت آياتها في الطول والقصر ، فمنها المؤلف من كلمة واحدة ومن كلمتين ومن ثلاث ، ومنها المؤلف من سطر أو سطرين أو بضعة أسطر ، ومنها المتفق في أكثر الفواصل أو كلها ، ومنها المختلف في السورة الواحدة منها ، وهي على ما فيها متشابه وغير متشابه في النظم ، متشابهة كلها في مزج المعاني العالية بعضها ببعض ، من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى ، وآياته في الأنفس والآفاق ، والحكم والمواعظ والأمثال ، وبيان البعث والمآل ، ودار الأبرار ودار الفجار ، والاعتبار بقصص الرسل والأقوام ، وأحكام العبادات والمعاملات والحلال والحرام .

                          يقول قائل : إن أساليب جميع الفصحاء والبلغاء متفاوتة كذلك ، لا يشبه أسلوب منها أسلوبا ، ولا يستويان منظوما ولا منثورا ، فمجرد اختلاف الأسلوب والنظم لا يصح أن يعد معجزا ( ونقول ) : من قال هذا فقد أبعد النجعة ، وأوغل في مهامه الغفلة ، فمهما تختلف منظومات الشعراء فلن تعدو بحور الشعر المنقولة عن المتقدمين ، والتوشيحات والأزجال المعروفة عند المولدين ، ومهما تختلف خطب الخطباء والمترسلين من الكتاب والمؤلفين في العلوم والشرائع والآداب فلن تعدو أنواع الكلام الأربعة التي بدأنا القول بها ، ولا يشبه شيء من هذه ولا تلك نظم سورة من سور القرآن ولا أكثرها ، ولكل منهم نظم وأسلوب خاص .

                          فإن شئت أن تشعر سمعك وذوقك بالفرق بين نظم الكلام البشري ونظم الكلام الإلهي ، فائت بقارئ حسن الصوت يسمعك بعض أشعار المفلقين ، وخطب المصاقع المفوهين ، [ ص: 167 ] المتقدمين والمتأخرين ، بكل ما يستطيع من نغم وتحسين ، ثم ليتل عليك بعد ذلك بعض سور القرآن المختلفة النظم والأسلوب كسورة النجم وسورة القمر وسورة الرحمن وسورة الواقعة وسورة الحديد - مثلا - ثم حكم ذوقك ووجدانك في الفرق بينها في أنفسها ، ثم في الفرق بين كل منها وبين كلام البشر في كل أسلوب من أساليب بلغائهم ، وتأثير كل من الكلامين في نفسك بعد اختلاف وقعه في سمعك .

                          بل تأمل المعنى الواحد من المعاني المكررة في القرآن ، لأجل تقريرها في الأنفس ونقشها في الأذهان ، كالاعتبار بأحوال أشهر الرسل مع أقوامهم من مختصر ومطول ، وافطن لاختلاف النظم والأساليب فيها ، فمن المختصر ما في سور الذاريات والنجم والقمر والفجر ، ومن المطول ما في سورة الأعراف والشعراء وطه ، لعلك إن تدبرت هذا تشعر بالبون الشاسع بين كلام المخلوقين وكلام الخالق ، وتحكم بهذا الضرب من الإعجاز حكما ضروريا وجدانيا لا تستطيع أن تدفعه عن نفسك ، وإن عجزت عن بيانه بقولك .

                          ومن اللطائف البديعة التي يخالف بها نظم القرآن نظم كلام العرب من شعر ونثر : أنك ترى السور ذات النظم الخاص والفواصل المقفاة تأتي في بعضها فواصل غير مقفاة ، فتزيدها حسنا وجمالا وتأثيرا في القلب ، وتأتي في بعض آخر آيات مخالفة لسائر آيها في فواصلها وزنا وقافية ، فترفع قدرها وتكسوها جلالة وتكسبها روعة وعظمة ، وتجدد من نشاط القارئ وترهف من سمع المستمع ، وكان ينبغي للخطباء والمترسلين أن يحاكوا هذا النوع من محاسنه ، وإن كانوا يعجزون عن معارضة السورة في جملتها ، أو الصعود إلى أفق بلاغتها ، ومن أعجب هذه السور أوائل سور المفصل بل المفصل كله . قال شيخنا الأستاذ الإمام : كان المعقول أن يحدث القرآن في هذه اللغة من البلاغة في البيان فوق ما أحدثه بدرجات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية