الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 10 ] فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ، الاستمتاع بالشيء هو التمتع أو طول التمتع به ، وهو من المتاع ، أي الشيء الذي ينتفع به ، ومنه قوله تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم ( 9 : 69 ) ، أي نصيبكم إلى آخر الآية : قال بعضهم : إن السين والتاء في استمتعتم للتأكيد ولا يجوز أن تكون للطلب الذي هو الغالب في معناها ، والصواب أنه لا مانع يمنع من جعل الصيغة للطلب كما سأبينه ، والأجور : جمع أجر ، وهو في الأصل : الثواب والجزاء الذي يعطى في مقابلة شيء ما من عمل أو منفعة ، ثم خص بعد زمن التنزيل أو غلب فيما هو معلوم ، والفريضة : الحصة المفروضة أي المقدرة المحددة ، من فرض الخشبة إذا حزها ، وكانت العرب وغير العرب من الناس ولا يزالون يقدرون الأشياء من المقاييس والأعداد بفرض الخشب ، وأقرب شاهد عندي على هذا ما يفرض علي من ثمن اللبن كل صباح ، حيث أقيم الآن في القسطنطينية ، فبائع اللبن بلغاري وأصحاب البيت الذي أقيم فيه من الأرمن ، وهم الذين يشترون لي منه ، ويفرضون كل يوم فرضا في خشبة ، وفي كل طائفة من الزمن يحاسبونني ويحاسبونه بهذه الفروض .

                          ويطلق الفرض والفريضة على ما أوجبه الله من التكاليف إيجابا حتما ; لأن المفروض في الخشب يكون قطعيا لا محل للتردد فيه ، والمعنى ، فكل امرأة أو أية امرأة من أولئك النساء اللواتي أحل لكم أن تبتغوا تزوجهن بأموالكم استمتعتم بها ، أي : تزوجتموها فأعطوها الأجر والجزاء بعد أن تفرضوه لها في مقابلة ذلك الاستمتاع وهو المهر ، وقد تقدم في تفسير : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ( 4 : 4 ) ، أنه ينبغي للزوج أن يلاحظ في المهر غنى أعلى من معنى المكافأة والعوض ؛ فإن رابطة الزوجية أعلى من ذلك بأن يلاحظ فيه معنى تأكيد المحبة والمودة ، وأقول : إن تسمية المهر هنا أجرا ، أي ثوابا وجزاء لا ينافي ملاحظة ما في الزوجية من معنى سكون كل من الزوجين إلى الآخر وارتباطه معه برابطة المودة والرحمة ، كما بين الله تعالى ذلك في سورة الروم ، كما لا ينافي ما بينه في سورة البقرة من حقوق كل من الزوجين على الآخر بالمساواة ص 300 ج2 [ الهيئة العامة للكتاب ] ، ولكنه لما جعل للرجل على المرأة مع هذه المساواة في الحقوق درجة هي درجة القيامة ، ورياسة المنزل الذي يعمرانه ، والعشيرة التي يكونانها بالاشتراك ، وجعله بذلك هو فاعل الاستمتاع ، أي الانتفاع ، وهي القابلة له والمواتية فيه ، فرض لها سبحانه في مقابلة هذا الامتياز الذي جعله للرجل جزاء وأجرا تطيب به نفسها ، ويتم به العدل بينها وبين زوجها ، فالمهر ليس ثمنا للبضع ، ولا جزاء للزوجية نفسها ، وإنما سره وحكمته ما ذكرناه ، وهو واضح من معنى الآية مطابق للفظها جامع بينها وبين سائر الآيات ، وقد فتح الله علي به الآن ، ولم يكن خطر على بالي من قبل على وضوحه في نفسه .

                          وهل يعطى هذا الأجر المفروض والمهر المحدود قبل الدخول بالمرأة أو بعده ؟ إذا قلنا : [ ص: 11 ] إن السين والتاء في : استمتعتم للطلب يكون المعنى : فمن طلبتم أن تتمتعوا أو تنتفعوا بتزوجها فأعطوها المهر الذي تفرضونه لها عند العقد عطاء فريضة ، أو حال كونه فريضة تفرضونها على أنفسكم أو فرضها الله عليكم ، وإذا قلنا : إنها ليست للطلب ، يكون المعنى فمن تمتعتم بتزوجها منهن بأن دخلتم بها أو صرتم متمكنين من الدخول بها لعدم المانع بعد العقد فأعطوها مهرها عطاء فريضة ، أو افرضوه لها فريضة ، أو فرض الله عليكم ذلك فريضة لا هوادة فيها ، أو حال كون ذلك المهر فريضة منكم أو منه تعالى ، فالمهر يفرض ويعين في عقد النكاح ويسمى ذلك إيتاء وإعطاء حتى قبل القبض ، يقولون حتى الآن : عقد فلان على فلانة وأمهرها بألف أو أعطاها عشرة آلاف مثلا ، وكانوا يقولون أيضا : فرض لها كذا فريضة ; ولذلك اخترنا أن الذي فرض الفريضة هو الزوج بتقديمه في التقدير ويؤيده قوله تعالى : ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ( 2 : 236 ) ، وقوله : وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ( 2 : 237 ) ، فالمهر يجب ويتعين بفرضه وتعيينه في العقد ويصير في حكم المعطى ، والعادة أن يعطى كله أو أكثره قبل الدخول ، ولا يجب كله إلا بالدخول ; لأن من طلق قبل الدخول وجب عليه نصف المهر لا كله ، ومن لم يعطه قبل الدخول يجب عليه إعطاؤه بعده ، ومن قال من الفقهاء : لا تسمع دعوى المرأة بمعجل المهر بعد الدخول لم يرد أنه لا يجب لها ، أو أنه يسقط بالدخول ، بل أراد أن هذه الدعوى على خلاف الظاهر المعهود فيغلب أن تكون باطلة .

                          ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ، أي : لا حرج ولا تضييق عليكم منه تعالى إذا تراضيتم بعد الفريضة على الزيادة فيها أو النقص منها أو حطها كلها ، فإن الغرض من الزوجية أن تكونوا في عيشة راضية ومودة ورحمة تصلح بها شئونكم ، وترتقي بها أمتكم ، والشرع يضع لكم قواعد العدل ، ويهديكم مع ذلك إلى الإحسان والفضل : إن الله كان عليما حكيما فيضع لعباده من الشرائع بحكمته ما يعلم أن فيه صلاح حالهم ما تمسكوا به ، ومن ذلك أن أوجب على الرجل أن يفرض لمن يريد الاستمتاع بها أجرا يكافئها به على قبول قيامه ورياسته عليها ، ثم أذن له ولها في التراضي على ما يريان الخير فيه لهما والائتلاف والمودة بينهما .

                          هذا هو المتبادر من نظم الآية ; فإنها قد بينت ما يحل من نكاح النساء في مقابلة ما حرم فيما قبلها وفي صدرها ، وبينت كيفيته ، وهو أن يكون بمال يعطى للمرأة وبأن يكون الغرض المقصود منه الإحصان دون مجرد التمتع بسفح الماء ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية " نكاح المتعة " : وهو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا ، واستدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبي ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم وبالأخبار والآثار التي رويت [ ص: 12 ] في المتعة ، فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا ، وقد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا ، فالزيادة فيه من قبيل التفسير ، وهو فهم لصاحبه ، وفهم الصحابي ليس حجة في الدين ، لا سيما إذا كان النظم والأسلوب يأباه كما هنا ، فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة ، بل يكون قصده الأول المسافحة ، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه ومنعها من التنقل في دمن الزنا ; فإنه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل :


                          كرة حذفت بصوالجة فتلقفها رجل رجل

                          ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا ، كقوله عز وجل في صفة المؤمنين : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ( 23 : 5 - 7 ) ، أي : المتجاوزون ما أحله الله لهم إلى ما حرمه عليهم ، وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها بل هي بمعناها فلا نسخ ، والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي له عليها بالمعروف كما قال الله تعالى ، وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها ، فلا يعدونها من الأربع اللواتي تحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور ، بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء ، ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا ، وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين : محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم ، ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة ! والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ، ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه ألبتة .

                          وأما الأحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ، ثم نهاهم عنها ، ثم رخص فيها مرة أو مرتين ، ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا ، وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد عن نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين ; فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا مؤقتا وأقام معها ذلك الزمن الذي عينه ، فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها ، ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر ، وكلتا الفاحشتين كانت فاشية في الجاهلية ، ولكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر ، وروي عن بعض الصحابة أن الرخصة بالمتعة لم تنسخ ، أو أن النهي عنها إنما كان في حال الإقامة والاختيار ، لا في حال العنت والاضطرار الذي يكون غالبا في الأسفار ، وأشهر علماء الصحابة الذين كانوا يقولون بها عبد الله بن عباس [ ص: 13 ] رضي الله عنه ، وقد روي أنه لما رخص فيها قال له مولى له : إنما ذلك في الحال الشديد ، وفي النساء قلة أو نحوه ، قال ابن عباس : نعم ، وعن ابن جبير أنه قال : قلت لابن عباس : لقد سارت بفتياك الركبان ، وقال فيها الشعراء ، قال : وما قالوا ؟ قلت : قالوا :


                          قد قلت للشيخ لما طال مجلسه     يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
                          هل لك في رخصة الأطراف آنسة     تكون مثواك حتى مصدر الناس

                          فقال : سبحان الله ، ما بهذا أفتيت ! وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ولا تحل إلا للمضطر ، فعلى هذا لا يجيزها إلا لمن خشي العنت ، وعجز عن التزوج الذي مبنى عقده على الدوام ، ورأى أنه لا مفر له من الزنا إلا بهذا الزواج الموقت ، ورووا أن عليا كرم الله وجهه خطأ ابن عباس في رأيه هذا ، فرجع عنه ، ولكنه ثبت في صحيح مسلم أن ابن عباس كان يقول بذلك في خلافة عبد الله بن الزبير ، وروى عنه الترمذي والبيهقي والطبراني أنها كانت في أول الإسلام ، كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له من شأنه حتى نزلت الآية : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ( 23 : 6 ) ، فكل فرج سواهما فهو حرام ، وهذه الرواية معارضة بالروايات الصحيحة عند مسلم وغيره في أن المتعة كانت في أواخر سني الهجرة ، وبأن الآية التي أشار إليها مكية ، وبما هو معلوم في التاريخ من أن المسلمين في أول الإسلام لم يكن الرجل منهم يسافر إلى البلد فيقيم فيه كما ذكر في الرواية ، فإنهم كانوا مضطهدين معرضين للقتل أينما ثقفوا ، نعم إن وقوع ذلك منهم ليس محالا ولكنه خلاف الظاهر ، ولم ترد به رواية معينة عن أحد ، مع أن ظاهر العبارة أنه كان شائعا ، فعبارة هذه الرواية تتم عليها وتشهد أنها لفقت في عهد حضارة المسلمين بعد الصحابة ، فالإنصاف أن مجموع الروايات تدل على إصرار ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ على فتواه بالمتعة لكن على سبيل الضرورة وهو اجتهاد منه معارض بالنصوص ، ويقابله اجتهاد السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين .

                          والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه ، ( أولها ) : ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح ، والطلاق ، والعدة ، إن لم نقل لنصوصه ، ( وثانيها ) : الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة ، وقد جمع متونها وطرقها مسلم في صحيحه ، فمن أحب الاطلاع على ذلك فليرجع إليه وإلى شرح النووي له ، وكذا شرح الحافظ ابن حجر للبخاري ( وثالثها ) : نهي عمر عنها في خلافته وإشادته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة على ذلك ، وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر ، وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ ، ومنه ما مر في تفسير قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ( 4 : 20 ) ، [ راجع ص 375 [ ص: 14 ] وما بعدها جـ4 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] ، فقد خطأته امرأة فرجع إلى قولها واعترف بخطئه على المنبر ، ومثل هذا ينقض قول من يقول من الشيعة : إنهم سكتوا تقية ، وقد تعلقوا بما ورد في بعض الروايات من قول عمر رضي الله عنه : " أنا محرمها " ، فقالوا : إنه حرمها من قبل نفسه ولا يعتد بتحريمه ، ولو بنى ذلك على نص لذكره ، وأجيب على ذلك بأنه أسند التحريم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في رواية ابن ماجه ، وابن المنذر ، والبيهقي ، فيظهر أن من روى عنه ذلك اللفظ رواه بالمعنى ، فإن صح أنه لفظه فمعناه : أنه مبين تحريمها أو منفذ له ، وقد شاع عند الفصحاء والعلماء إسناد التحريم والإيجاب والإباحة إلى مبين ذلك ، فإذا قالوا : حرم الشافعي النبيذ ، وأحله أو أباحه أبو حنيفة ، لم يعنوا أنهما شرعا ذلك من عند أنفسهما ، وإنما يعنون أنهم بينوه بما ظهر لهم من الدليل ، وقد كنا قلنا في " محاورات المصلح والمقلد " التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من المنار : إن عمر منع المتعة اجتهادا منه وافقه عليه الصحابة ، ثم تبين لنا أن ذلك خطأ فنستغفر الله منه ، وإنما ذكرنا ذلك على سبيل الشاهد والمثال ، لا التمحيص للمسألة عن طريق الاستقلال .

                          وتقول الشيعة : إن لديهم روايات عن آل البيت عليهم السلام قاطعة بإباحة المتعة ، ولم نطلع على هذه الروايات وأسانيدها لنحكم فيها فأين هي ؟ ولكن ثبت عندنا أن إمام أئمة آل البيت عليا كرم الله وجهه حرم المتعة مع المحرمين لها من الصحابة رضوان الله عليهم ، ويقول بعض الغلاة في التعصب منهم : إنا لا نقبل هذه الرواية عنه ؛ لأنها رواية الخصم ؛ ولأن شيعته أعلم بأقواله ، ويجيب أهل السنة عن مثل هذا الكلام بأنه تمويه ومغالطة ; فإن المسألة ليست من الأصول التي كانت الشيعة بها شيعة ، وأهل السنة هم أهل السنة ، وإنما هي من أحكام الفروع العملية التي يهم كل مسلم أن يحرر الرواية فيها عن علماء الصاحبة ، ولا يشك أحد من أهل السنة في كون علي في مقدمتهم ، ثم إن رواة الأحاديث المدونة في دواوين أهل السنة المشهورة قسمان : منهم الأولون الذين لم يكونوا يلتزمون مذهبا فيتهموا بتأييده بالروايات وإنما يتبعون ما صحت روايته عندهم ، فالرواية هي الأصل وإلا ما صح منها يذهبون ، ومنهم الذين كانوا متبعين للمذاهب بعد حدوثها ، وقد كان عدولهم يروون ما يوافقها وما يخالفها ؛ لأنهم يدينون الله بالصدق في الرواية ويكلون إلى فقهائهم بيان معناها وترجيح المتعارض منها ، بل لم يمتنعوا عن رواية بعض الأحاديث التي لا تخلو من طعن في بعض أصول الدين التي لا تختلف فيها المذاهب ، فعدالة الرواة هي العمدة فيرجع فيها إلى قواعد الجرح والتعديل وتراجم الرجال وتمحيص ما قيل في جرحهم وتعديلهم ، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن المذاهب كانت سببا للوضع والكذب في الرواية ، وأن نقد الرواة المقلدين هو أهم مسائل هذا الفن ، ولكن مسألة المتعة لم تكن في عصر الرواية من هذا الباب ، وقد عدل المحدثون [ ص: 15 ] من أهل السنة كثيرا من الشيعة في الرواية ، ولا سعة في التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون قد خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه ، وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به ، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين وتعاديهم ، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه الحق ، والله عليم بذات الصدور ، وقد بدأت بكتابة هذا البحث وأنا أنوي ألا أكتب فيه إلا بضعة أسطر ; لأنني لا أريد تحرير القول في الروايات هنا ، وليس عندي حيث أكتب شيء من كتب السنة فأراجعها فيه ، ولكن ما كتبته هو صفوتها وصفوة ما قالوه فيها ، فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها ، فربما نكتب في ذلك مقالا نمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعرض والترجيح وننشر ذلك في المنار .

                          هذا ، وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق ، وإن كان الفقهاء يقولون : إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ، ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا ، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت ، ويكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها ، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية ، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات وما يترتب على ذلك من المنكرات ، وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشا وخداعا يترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته ، وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له وتعاونهما على تأسيس بيت صالح بين بيوت الأمة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية