الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس قال الأستاذ : الرئاء يخفف فيقال : الرياء مصدر راءى كالمراءاة والجملة عطف على الذين يبخلون وأعيد الموصول للدلالة على المغايرة في الأصناف كقوله تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة ( 3 : 135 ) ، من سورة آل عمران ، أي أن مانعي الإحسان من أهل الفخر والخيلاء صنفان : صنف يبخلون ويكتمون فضل الله عليهم وصنف يبذلون المال لا شكرا لله على نعمته ، واعترافا لعباده بحقوقهم ، بل ينفقونه رئاء الناس ، أي : مرائين لهم يقصدون أن يروهم فيعظموا قدرهم ويحمدوا فعلهم ، فالمرائي لا يقصد بإنفاقه إلا الفخر على الناس بكبريائه ، وإشراع الطريق لخيلائه ، فإنفاقه أثر تلك الملكة الرديئة ، والكبرياء كما تكون من شيء في نفس الشخص تكون أيضا بما يكون له من المال والعرض ، فإنك لترى الرجل يمشي ينظر إلى عطفيه ويفكر في نفسه [ ص: 82 ] هل هو محل الإعجاب والتعظيم من الناس أم لا ؟ ـ والمرجح عنده نعم على لا ـ وشر هذا دون شر البخيل ، فإن هذا يحمل الناس على قبول اختياله وفخره في مقابلة شيء يبذله لهم ، فكأنه رأى لهم شيئا من الحق عليه وهو بدل التعظيم والثناء الذي يطلبه برئائه ، وأما البخيل تعظيمه ومدحه لأجل ماله ـ وماله في الصندوق مكتوم عنهم ـ فهو شر من المرائي بلا شك ; ولذلك قدم ذكر البخلاء اهتماما بهم ؛ لأنهم أعرق في تلك الرذيلة وآثارها ، والمرائي في الحقيقة بخيل لا يرى لأحد عليه حقا ولكنه يتوهم أنه صاحب الفضل على الناس ; ولذلك يخص ببذله في الغالب من لا حق لهم عنده ، ويبخل على أرباب الحقوق المؤكدة حتى على زوجه وولده وخادمه ، وعلى الأقربين حتى الوالدين ، ولا يتحرى في إنفاقه مواضع النفع العام ولا الخاص ، وإنما يتحرى مواطن التعظيم والمدح وإن كان الإنفاق هنالك ضارا كالمساعدة على الفسق أو الفتن ، فهو تاجر يشتري تعظيم الناس له وتسخيرهم لقضاء حاجه والقيام بخدمته .

                          أقول : إن ما يبينه الأستاذ الإمام هنا هو الرياء الحقيقي الممقوت عند الله وعند خيار عباده ، ويقول علماء الأخلاق الدينية : إن للرياء أنواعا ومراتب ، وإن منها أن يبذل المال لمستحقه امتثالا لأمر الله تعالى وقياما بالحق وإيثارا للخير ، وقد يخفيه ، ولكنه يحب أن يحمد على ذلك إذا عرف ، ويعدون الرياء من الشرك الخفي ، ويقولون : إن منه ما هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء كهذا المثال الذي ذكرناه ، وإنما هذا من قبيل ما يحاسب عليه أنفسهم الصديقون ، ويقال في مثله : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، والحق أن من جاء بالإحسان لأنه إحسان فهو مرضي عند الله نافع للناس ، فلا يضيره حبه أن يحمد بما فعل ، وإن كان عدم المبالاة بذلك لذاته أكمل ، وقد بينت ذلك بالتفصيل في تفسير : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ( 3 : 188 ) ، الآية فراجعه في ص [ 235 - 242 من الجزء الرابع من التفسير ] ، أو في المنار .

                          الأستاذ الإمام : ثم وصف الله تعالى هؤلاء المجرمين المرائين بقوله : ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وهو من عطف السبب على المسبب والعلة على المعلول ، ذلك بأن المرائي يثق بما عند الله ، ويرجح التقرب إليهم على التقرب إليه ، ويؤثر ما عندهم من المدح وتوقع النفع على ما أعده الله في الآخرة على الإيمان وعمل الصالحات فالله في نظره المظلم أهون من الناس ، فهل يعد مثل هذا مؤمنا بالله إيمانا حقيقيا ، مؤمنا باليوم الآخر كما يجب ؟ أم يكون إيمانه تخيلا كتخيل الشعراء ، وقولا كقول الصبيان : والله ما فعلت كذا ، فالواحد منهم ينطق باسم الله ويؤكد باسمه الكريم الكلام ، وهو لا يعرف الله ، وإنما [ ص: 83 ] يسمع الناس يقولون قولا فيقلدهم بما يحفظ منه ، لا يعرف أنه هو موجد الكائنات ، النافذ علمه وقدرته بما في الأرض والسماوات ، فهل يكون مثل هذا مؤمنا بالله واليوم الآخر ؟ كلا إنه لو كان مؤمنا باليوم الآخر موقنا بأن له هنالك حياة أبدية لا نهاية لها ، لما فضل عليها عرض هذه الحياة القصيرة التي لا قيمة لها .

                          ومن آيات الفرق بين المخلص والمرائي أن المرائي يلتمس الفرص والمناسبات للفخر والتبجح بما أعطى ، وما فعل ، والمخلص قلما يتذكر عمله أو يذكره إلا لمصلحة كأن يرغب بعض الناس في البذل ، فيقول للغني مثلا : إنني على فقري أو على قدر حالي قد أعطيت في مصلحة كذا كذا درهما أو دينارا ، فاللائق بك أن تبذل كذا .

                          وأقول : إن من شأن الكافر الذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ألا يبذل مالا ، ولا يعمل عملا صالحا إلا بقصد الرياء والسمعة ; لأنه ليس له وراء حظوظ هذه الدنيا أمل ، ولا مطلب ، والمؤمن ليس كذلك فإن وقع الرياء من مؤمن فإنما يقع من ضعيف الإيمان قليلا ، ولا يكون كل عمل المؤمن كذلك بل يكون ذلك إلماما يندم عليه صاحبه ويسرع إلى التوبة ، وإلا كان كافرا مجاهرا ، أو منافقا مخادعا ، وسيأتي شيء من تحقيق هذا البحث في تفسير قوله تعالى في هذه السورة : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 142 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية