الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 148 ] فقد بين الواجب فيما تنازعوا بقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وذلك بأن يعرض على كتاب الله ، وسنة رسوله وما فيهما من القواعد العامة ، والسيرة المطردة ، فما كان موافقا لهما علم أنه صالح لنا ، ووجب الأخذ به ، وما كان منافرا علم أنه غير صالح ووجب تركه وبذلك يزول التنازع وتجتمع الكلمة ، وهذا الرد واستنباط الفصل في الخلاف من القواعد هو الذي يعبر عنه بالقياس ، والأول هو الإجماع الذي يعتد به ، وقد اشترطوا في القياس شروطا بالنظر إلى العلة ، والغرض من هذا الرد ألا يقع خلاف في الدين والشرع ; لأنه لا خلاف ولا اختلاف في أحكامهما ، كذا قال الأستاذ ، والمراد ألا يفضي التنازع إلى اختلاف التفرق الذي يلبس المسلمين شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض ، وسيأتي بيان ذلك مفصلا ، ولكنهم لم يعلموا بالآية فتفرقوا واختلفوا .

                          ذكر الأستاذ الإمام في الدرس أن ما اهتدى إليه في تفسير أولي الأمر من كونهم جماعة أهل الحل والعقد لم يكن يظن أن أحدا من المفسرين سبقه إليه حتى رآه في تفسير النيسابوري ، وأقول : إن النيسابوري قد لخص في المسألة ما قاله الفخر الرازي ، بل جميع تفسيره تلخيص لتفسير الرازي مع زيادات قليلة ، وإنما خصه الأستاذ بالذكر لأن ظاهر عبارة الرازي تشعر بأن أولي الأمر هم أهل الإجماع المصطلح عليه في أصول الفقه ، وهم المجتهدون في الأحكام الظنية الفقهية ، وإن عبر عنه تارة بإجماع الأمة ، وتارة بإجماع أهل الحل والعقد ، كأنه رأى أنه يسمي أهل الإجماع أهل الحل والعقد لقوله : إن العلماء هم أمراء الأمراء ، أي يجب أن يكونوا كذلك ، ولكنهم ليسوا كذلك بالفعل .

                          وأما النيسابوري فعبارته هي التي تؤدي المعنى الذي قاله الأستاذ ، فإنه قال بعد إبطال الأقوال المشهورة في تفسير أولي الأمر : " وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون المعصوم كل الأمة ، أي : أهل الحل والعقد ، وأصحاب الاعتبار والآراء فالمراد بقوله : وأولي الأمر ما اجتمعت الأمة عليه اهـ .

                          فقوله : أهل الحل والعقد ، وأصحاب الاعتبار والآراء وهو بمعنى قول الأستاذ الذي أدخل فيه أمراء الجند ورؤساء المصالح ، وهذا هو المعقول ; لأن مجموع هؤلاء هم الذين تثق بهم الأمة وتحفظ مصالحها ، وباتفاقهم يؤمن عليها من التفرق والشقاق ولهذا أمر الله بطاعتهم ، لا لأنهم معصومون من الخطأ فيما يقررونه .

                          وقد رأينا أن ننقل بعض ما قاله الرازي لتصريحه فيه بما يسمونه اليوم في عرف أهل السياسة بسلطة الأمة ، وتفنيده قول من قال : إن المراد بأولي الأمر الأمراء والسلاطين ، وهو ما يتزلف به المتزلفون إليهم حتى إنهم كانوا يتلون هذه الآية على مسامع السلطان عبد الحميد في كل صلاة جمعة ، على أننا قد صرحنا بهذه الحقائق في المنار وفي التفسير من قبل .

                          قال الرازي بعد تقرير كون الجزم بطاعة أولي الأمر يقتضي عصمتهم فيما يطاعون فيه [ ص: 149 ] ما نصه : " ثم نقول : ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعض الأمة ، لا جائز أن يكون بعض الأمة ؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعا ، وإيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم ، والاستفادة منهم ، ونحن نعلم بالضرورة أننا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، ( أقول : ومثله المجتهدون في الفقه ) ، عاجزون عن الوصول إليهم ( كذا ) عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم ، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المسلمين بطاعته ليس بعضا من أبعاض الأمة ، ولا طائفة من طوائفهم ، ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم هو المراد بقوله : وأولي الأمر أهل الحل والعقد من الأمة ، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأمة حجة .

                          ثم ذكر أن الأقوال المأثورة عن علماء التفسير في أولي الأمر أربعة :

                          1 - الخلفاء الراشدون .

                          2 - أمراء السرايا ( أقول : وهم قواد العسكر ) عند عدم خروج الإمام فيه أي : في العسكر .

                          3 - علماء الدين الذين يفتون ويعلمون الناس دينهم .

                          4 - الأئمة المعصومون وعزاه إلى الرافضة .

                          ثم أورد على التفسير الذي اختاره إيرادين أو سؤالين :

                          أحدهما : لما كانت أقوال الأمة في تفسير الآية محصورة في هذه الوجوه وكان القول الذي نصرتموه خارجا عنها كان ذلك بإجماع الأمة باطلا .

                          السؤال الثاني : أن نقول حمل أولي الأمر على الأمراء والسلاطين أولى مما ذكرتم ويدل عليه وجوه :

                          الأول : أن الأمراء والسلاطين أوامرهم نافذة على الخلق فهم في الحقيقة أولو الأمر ، أما أهل الإجماع فليس لهم أمر نافذ على الخلق فكان حمل اللفظ على الأمراء والسلاطين أولى .

                          والثاني : أن أول الآية وآخرها يناسب ما ذكرناه ، أما أول الآية فهو أنه تعالى أمر الحكام بأداء الأمانات وبرعاية العدل ، وأما آخر الآية فهو أنه أمر بالرد إلى الكتاب والسنة فيما أشكل ، وهذا إنما يليق بالأمراء لا بأهل الإجماع .

                          الثالث : أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالغ بالترغيب في طاعة الأمراء ، فقال : من أطاعني فقط أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني، فهذا ما يمكن ذكره من السؤال على الاستدلال .

                          قال : والجواب أنه لا نزاع أن جماعة من الصحابة والتابعين حملوا قوله : وأولي الأمر منكم على العلماء ، فإذا قلنا : المراد منه جميع العلماء من أهل الحل والعقد لم يكن هذا قولا خارجا عن أقوال الأمة ، بل كان هذا اختيارا لأحد أقوالهم وتصحيحا له بالحجة القاطعة فاندفع السؤال الأول .

                          [ ص: 150 ] وأما سؤالهم الثاني فهو مدفوع ؛ لأن الوجوه التي ذكروها وجوه ضعيفة ، والذي ذكرناه برهان قاطع ، فكان قولنا أولى ، على أنا نعارض تلك الوجوه بوجوه أخرى أقوى منها :

                          فأحدها : أن الأمة مجمعة على أن الأمراء والسلاطين إنما تجب طاعتهم فيما علم بالدليل أنه حق وصواب ، وذلك الدليل ليس إلا الكتاب والسنة ، فحينئذ لا يكون هذا قسما منفصلا عن طاعة الكتاب والسنة ، وعن طاعة الله وطاعة رسوله بل يكون داخلا فيه ، كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والولد للوالدين والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول ، أما إذا حملناه على الإجماع لم يكن هذا القسم داخلا تحتها ؛ لأنه ربما دل الإجماع على حكم بحيث لا يكون في الكتاب والسنة دلالة عليه ، فحينئذ أمكن جعل هذا القسم منفصلا عن القسمين الأولين فهذا أولى .

                          وثانيها : أن حمل الآية على طاعة الأمراء يقتضي إدخال الشرط في الآية ؛ لأن طاعة الأمراء إنما تجب إذا كانوا مع الحق ، فإذا حملناه على الإجماع لا يدخل الشرط في الآية ، فكان هذا أولى .

                          وثالثها : أن قوله من بعد فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول مشعر بإجماع مقدم يخالف حكمه حكم هذا التنازع .

                          ورابعها : أن طاعة الله وطاعة رسوله واجبة قطعا وعندنا أن طاعة الإجماع واجبة قطعا ، وأما طاعة الأمراء والسلاطين فغير واجبة قطعا ، بل الأكثر أنها تكون محرمة ، لأنهم لا يأمرون إلا بالظلم ، وفي الأقل تكون واجبة بحسب الظن الضعيف ، فكان حمل الآية على الإجماع أولى ; لأنه أدخل الرسول وأولي الأمر في لفظ واحد وهو قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر فكان حمل أولي الأمر الذي هو مقرون بالرسول على المعصوم أولى من حمله على الفاجر الفاسق .

                          وخامسها : أن أعمال الأمراء والسلاطين موقوفة على فتاوى العلماء ، والعلماء في الحقيقة أمراء الأمراء ، فكان حمل لفظ " أولي الأمر " عليهم أولى .

                          قال : وأما حمل الآية على الأئمة المعصومين كما تقوله الروافض ففي غاية البعد لوجوه :

                          أحدها : ما ذكرناه أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم وقدرة الوصول إليهم ، فلو أوجب علينا طاعتهم قبل معرفتهم كان هذا تكليف ما لا يطاق ، ولو أوجب علينا طاعتهم إذا صرنا عارفين بهم وبمذاهبهم صار هذا الإيجاب مشروطا ، وظاهر قوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم يقتضي الإطلاق ، وأيضا ففي الآية ما يدفع هذا الاحتمال ، وذلك أنه أمر بطاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في لفظة واحدة وهي قوله : [ ص: 151 ] وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم واللفظة الواحدة لا يجوز أن تكون مطلقة ومشروطة معا ، فلما كانت هذه اللفظة مطلقة في حق الرسول وجب أن تكون مطلقة في حق أولي الأمر .

                          ثانيها : أنه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر ، وأولو الأمر جمع ، وعندهم لا يكون في الزمان إلا إمام واحد ، وحمل الجمع على الفرد خلاف الظاهر .

                          وثالثها : أنه قال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ، ولو كان المراد بأولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام ، فثبت أن الحق تفسير الآية بما ذكرنا ، انتهى كلام الإمام الرازي .

                          أقول : إن القائلين بالإمام المعصوم يقولون : إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من ظلمة الخلاف وضرر التنازع والتفرق ، وظاهر الآية بيان حكم المتنازع فيه مع وجود أولي الأمر وطاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل والوقائع ، والخلاف والتنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به ; لأنه عندهم مثل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يكون لهذه الزيادة فائدة على رأيهم .

                          وحصر الرازي الأقوال المنقولة في الأربعة التي ذكرها غير مسلم ، فقد روي عن مجاهد أن أولي الأمر هم الصحابة ، وفي رواية عنه وعن مالك والضحاك وهي مأثورة عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أنهم أهل القرآن والعلم ، فإن كان الرازي يعني بأهل الإجماع المجتهدين على اصطلاح أهل الأصول فهم أهل العلم والقرآن ، وإن كان يعني بهم أهل الحل والعقد الذين ينصبون الإمام الأعظم كما يفهم من تعبيره الآخر فقد يوافق قوله قول ابن كيسان : إن أولي الأمر هم أهل العقل والرأي ، وقلما تجد أحدا من المتأخرين قال قولا إلا وتجد لمن قبله قولا بمعناه ، ولكن القول إذا لم يكن واضحا مفصلا حيث يحتاج إلى التفصيل فإنه يضيع ولا يفهم الجمهور المراد منه ، وهذا الرازي على إسهابه وإطنابه في المسائل لم يحل المسألة كما يجب ، إذ عبر تارة بأهل الإجماع ، والمتبادر إلى الذهن أن المراد بهم المجتهدون في المسائل الفقهية ، وتارة بأهل الحل والعقد والمتبادر إلى الذهن أنهم هم الذين يختارون الإمام الأعظم ، وهذا ما فهمه أو اختاره النيسابوري وهو الصواب ، وبه يكون الرازي قد حقق مسألة الإجماع أفضل التحقيق كما سنبينه .

                          قال السعد في شرح المقاصد : " وتنعقد الإمامة بطرق : أحدها بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس " إلخ ، فأهل الحل والعقد الذين هم خواص الأمة من العلماء ورؤساء الجند والمصالح العامة هم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم فيما يتفقون عليه ; لأن عامة الناس ودهماءهم يتبعونهم بارتياح واطمئنان ، ولأنهم هم العارفون بالمصلحة التي يحتاج إلى تقرير الحكم فيها ، ولأن اجتماعهم واتفاقهم ميسور ، ولأجل ذلك كان إجماعهم بمعنى [ ص: 152 ] إجماع الأمة برمتها ، وهذه المعاني لا تتحقق بإجماع المجتهدين في الفقه إن أمكن أن يعرفوا ، وأن يجتمعوا وأن تعلم الأمة بإجماعهم وتثق بهم .

                          إذا تمهد هذا فالآية مبينة أصول الدين وشريعته والحكومة الإسلامية وهي :

                          الأصل الأول : القرآن الحكيم والعمل به هو طاعة الله تعالى .

                          الأصل الثاني : سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والعمل بها هو طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

                          الأصل الثالث : إجماع أولي الأمر ، وهم أهل الحل والعقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء ، والرؤساء في الجيش ، والمصالح العامة كالتجارة والصناعة والزراعة ، وكذا رؤساء العمال ، والأحزاب ، ومديرو الجرائد المحترمة ورؤساء تحريرها ، وطاعتهم حينئذ هي طاعة أولي الأمر .

                          الأصل الرابع : عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد والأحكام العامة المعلومة في الكتاب والسنة ، وذلك قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول .

                          فهذه الأصول الأربعة هي مصادر الشريعة ، ولا بد من وجود جماعة يقومون بعرض المسائل التي يتنازع فيها على الكتاب والسنة ، وهل يكونون من أولي الأمر أو ممن يختارهم أولو الأمر من علماء هذا الشأن ؟ سيأتي بيان ذلك قريبا .

                          ويجب على الحكام الحكم بما يقرره أولو الأمر وتنفيذه ، وبذلك تكون الدولة الإسلامية مؤلفة من جماعتين أو ثلاث :

                          الأولى : جماعة المبينين للأحكام الذين يعبر عنهم أهل هذا العصر بالهيئة التشريعية .

                          والثانية : جماعة الحاكمين والمنفذين وهم الذين يطلق عليهم اسم الهيئة التنفيذية .

                          والثالثة : جماعة المحكمين في التنازع ويجوز أن تكون طائفة من الجماعة الأولى .

                          ويجب على الأمة قبول هذه الأحكام والخضوع لها سرا وجهرا ، وهي لا تكون بذلك خاضعة خانعة لأحد من البشر ، ولا خارجة من دائرة توحيد الربوبية الذي شعاره إنما الشارع هو الله إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ( 12 : 40 ) ، فإنها لم تعمل إلا بحكم الله تعالى أو حكم رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإذنه ، أو حكم نفسها الذي استنبطه لها جماعة أهل الحل والعقد والعلم والخبرة من أفرادها الذين وثقت بهم واطمأنت بإخلاصهم وعدم اتفاقهم إلا على ما هو الأصلح لها ، فهي بذلك تكون خاضعة لوجدانها لا تشعر باستبداد أحد فيها ، ولا باستذلاله واستعباده لها ، بل يصدق عليها ما دامت لحكومتها على هذا الوجه بقية : أنها أعز الناس نفوسا وأرفعهم رؤوسا ، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .

                          ولا بد لنا قبل أن نحرر مسألة التنازع من فتح باب البحث في اجتماع أولي الأمر [ ص: 153 ] وتقريرهم للأحكام في المصالح العامة التي تحتاج إليها الأمة ، فقد علمنا أن أولي الأمر معناه أصحاب أمر الأمة في حكمها وإدارة مصالحها ، وهو الأمر المشار إليه في قوله تعالى : وأمرهم شورى بينهم ( 42 : 38 ) ، ولا يمكن أن يكون شورى بين جميع أفراد الأمة ، فتعين أن يكون شورى بين جماعة تمثل الأمة ويكون رأيها كرأي مجموع أفراد الأمة لعلمهم بالمصالح العامة وغيرتهم عليها ، ولما لسائر أفراد الأمة من الثقة بهم والاطمئنان بحكمهم ، بحيث تكون بالعمل به عاملة بحكم نفسها وخاضعة لقلبها وضميرها ، وما هؤلاء إلا أهل الحل والعقد الذين تكرر ذكرهم في هذا السياق ، ولكن كيف يجتمع هؤلاء ومن يجمعهم ، ولماذا لم يوضع لهم نظام في الإسلام كنظام مجالس الشورى ، التي تسمى مجالس النواب في عرف أهل هذا العصر ؟

                          بحثنا في هذه المسألة في تفسير : وشاورهم في الأمر ( 3 : 159 ) ، فبينا الحكم والأسباب لعدم وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا النظام ، وكيف كانت خلافة الراشدين بالشورى بحسب حال زمانهم ، وكيف أفسد الأمويون بعد ذلك حكومة الإسلام وهدموا قواعدها وسنوا للمسلمين سنة الحكومة الشخصية والمؤيدة بعصبية الحاكم ، فعليهم وزرها ووزر من عمل بها ويعمل بها إلى يوم القيامة ، وصفوة ما هنالك أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان ، فلم يكن من الحكمة أن يوضع له نظام موافق لحال الصدر الأول وحدهم ، والمسلمون قليل من العرب وأولو الأمر فيهم محصورون في الحجاز ويجعل عاما لكل زمان ، ولو وضعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لاتخذوه دينا وتقيدوا به في كل زمان ومكان ، وهو لا يمكن أن يوافق كل زمان ومكان ، ولكان إذا عمله باجتهاده غير عامل بالشورى ، وإذا عمله بالشورى جاز أن يكون رأي المستشارين مخالفا لرأيه كما وقع في غزوة أحد ـ فيكون رأيهم قيدا للمسلمين مدى الدهر ، ويتخذونه دينا كما اتخذوا كثيرا من آراء الفقهاء [ راجع تفصيل ذلك في ص 163 وما بعدها ج4 ط الهيئة العامة للكتاب ] .

                          فالأمر الذي لا ريب فيه : أن الله تعالى هدانا إلى أفضل وأكمل الأصول والقواعد لنبني عليها حكومتنا ونقيم بها دولتنا ، ووكل هذا البناء إلينا فأعطانا بذلك الحرية التامة والاستقلال الكامل في أمورنا الدنيوية ومصالحنا الاجتماعية ، وذلك أنه جعل أمرنا شورى بيننا ينظر فيه أهل المعرفة والمكانة الذين نثق بهم ، ويقررون لنا في كل زمان ما تقوم به مصلحتنا وتسعد أمتنا ، لا يتقيدون في ذلك بقيد إلا هداية الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المبينة له ، وليس فيهما قيود تمنع سير المدنية أو ترهق المسلمين عسرا في عمل من الأعمال ، بل أساسهما اليسر ، ورفع الحرج والعسر ، وحظر الضار ، وإباحة النافع ، وكون ما حرم [ ص: 154 ] لذاته يباح للضرورة ، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ، ومراعاة العدل لذاته ، ورد الأمانات إلى أهلها ، ولكننا ما رعينا هذه الهداية حق رعايتها فقيدنا أنفسنا بألوف من القيود التي اخترعناها وسميناها دينا ، فلما أقعدتنا هذه القيود عن مجاراة الأمم في المدنية والعمران صار حكامنا الذين خرجوا بنا عن هذه الأسس والأصول المقررة في الكتاب والسنة فريقين : فريقا رضوا بالقعود واختاروا الموت على الحياة توهما منهم أنهم بمحافظتهم على قيودهم التقليدية محافظون على الإسلام ، قائلين : إن الموت على ذلك خير من الحياة باتباع غير المسلمين في أصول حكومتهم ، وفريقا رأوا أنه لا بد لهم من تقليد غير المسلمين في قوانينهم الأساسية أو الفرعية ، فكان كل من الفريقين بجهله حجة على الإسلام في الظاهر ، والإسلام حجة عليهم في الحقيقة ، فكتاب الله حي لا يموت ، ونوره متألق لا يخفى ، وإن جعلوا بينه وبينهم ألف حجاب قل فلله الحجة البالغة ( 6 : 149 ) .

                          ليس بين القانون الأساسي الذي قررته هذه الآية على إيجازها ، وبين القوانين الأساسية لأرقى حكومات الأرض في هذا الزمان إلا فرق يسير ، نحن فيه أقرب إلى الصواب ، وأثبت في الاتفاق منهم إذا نحن عملنا بما هدانا إليه ربنا .

                          هم يقولون : إن مصدر القوانين الأمة ، ونحن نقول بذلك في غير المنصوص في الكتاب والسنة كما قرره الإمام الرازي آنفا ، والمنصوص قليل جدا .

                          وهم يقولون : إنه لا بد أن ينوب عن الأمة من يمثلها في ذلك حتى يكون ما يقررونه كأنها هي التي قررته ، ونحن نقول ذلك أيضا كما علمت .

                          وهم يقولون : إن ذلك يعرف بالانتخاب ولهم فيه طرق مختلفة ، ونحن لم يقيدنا القرآن بطريقة مخصوصة ، فلنا أن نسلك في كل زمن ما نراه يؤدي إلى المقصد ، ولكنه سمى هؤلاء الذين يمثلون الأمة أولي الأمر أي : أصحاب الشأن في الأمة الذين يرجع إليهم في مصالحها وتطمئن هي باتباعهم ، وقد يكونون محصورين في مركز الحكومة في بعض الأوقات كما كانوا في الصدر الأول من الإسلام ، فالستة الذين اختارهم عمر للشورى في انتخاب خلف له كانوا هم أولي الأمر ; ولذلك اجتمعت كلمة الأمة بانتخابهم ، ولو بايع غيرهم أميرا لم يبايعوه لانشقت العصا وتفرقت الكلمة ، وقد يكونون متفرقين في البلاد فلا بد حينئذ من جمعهم ولهم أن يضعوا قانونا لذلك ، وهم يقولون : إن هؤلاء إذا تفرقوا وجب على الحكومة تنفيذ ما يتفقون عليه ، وعلى الأمة الطاعة ، ولهم أن يسقطوا الحاكم الذي لا ينفذ قانونهم ، ونحن نقول بذلك ، وهذا هو الإجماع الحقيقي الذي نعده من أصول شريعتنا .

                          وهم يقولون : إنهم إذا اختلفوا يجب العمل برأي الأكثر ، وظاهر الآية على ما اختاره الأستاذ الإمام أن ما يختلفون فيه عندنا يرد إلى الكتاب والسنة ويعرض على أصولهما وقواعدهما ، [ ص: 155 ] فيعمل بما يتفق معهما ، ونحن نعلم كما يعلمون أن رأي الأكثرين ليس أولى بالصواب من رأي الأقلين ، ولا سيما في هذا الزمان حيث يتكون الأكثر من حزب ينصر بعض أفراده بعضا في الحق والباطل ، ويتواضعون على اتباع أقلهم لأكثرهم في خطئهم ، فإذا كان أعضاء المجلس مائتين منهم مائة وعشرة يتبعون حزبا من الأحزاب ، وأراد زعماء هذا الحزب تقرير مسألة ، فإذا أقنعوا بالدليل أو النفوذ ستين منهم يتبعهم الخمسون الآخرون وإن كانوا يعتقدون خطأهم ، فإذا خالفهم سائر أهل المجلس يكون عدد الذين يعتقدون بطلان المسألة 140 والذين يعتقدون حقيقتها ستون ، وهم أقل من النصف وتنفذ برأيهم .

                          الأكثرية لا تستلزم الحقية والإصابة في الحكم ، ولا هي بالتي تطمئن الأمة إلى رأيها ، فربما كان الأكثرون الذين يقررون مسألة مالية أو عسكرية مثلا ليس فيهم العدد الكافي من العارفين بها ، فيظهر للجمهور خطؤها فتتزلزل ثقته بمجلس الأمة ويفتح باب الخلاف والتفرق ، ويخشى أن تتألف الأحزاب للمقاومة ، فإما أن يكره الجمهور المخالف على القبول إكراها ، وحينئذ يكون الحكم للعصبية الغالبة ، لا للأمة المتحدة ، وإما أن تتطلع رؤوس الفتن وهذا ما يجب اتقاؤه وسد ذريعته في أساس الحكم وأصول السلطة ، لئلا تهلك الأمة بقيام بعضها على بعض ويكون بأسها بينها شديدا فيتمكن بذلك الأعداء من مقاتلها ، وقد نهينا في الكتاب والسنة عن التفرق والتنازع والخلاف التي تؤدي إلى مثل هذا البلاء .

                          فتبين بهذا حكمة عرض المسائل التي يتنازع فيها أولو الأمر على جماعة يردونها إلى الكتاب والسنة ، ويحكمون فيها بقواعدهما التي أشرنا إلى بعضها آنفا ، فإن الأمة كلها ترضى بفصل هذه الجماعة عندما تؤيده بدليله ، وهل تكون هذه الجماعة من علماء الدين فقط أم من طبقات أولي الأمر المختلفة ؟ للمفسرين في المخاطبين بقوله تعالى : فإن تنازعتم قولان مشهوران :

                          أحدهما : أنهم أولو الأمر على طريق الالتفات عن الغيبة إلى الخطاب ، وعلى هذا يكون أولو الأمر مخيرين في طريقة رد الشيء المتنازع فيه إلى الله والرسول بين أن يكون ذلك بوساطة بعض منهم ، أو من غيرهم ، بشرط أن يكونا عالمين بالكتاب والسنة والمصالح العامة ، فإن اتضح الأمر برده إلى الكتاب والسنة لوضوح دليله وجب العمل به حتما ، وإلا كان المرجح هو الإمام الأعظم كما تدل عليه السنة في ترجيح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما اختلف فيه الصحابة ببدر وأحد ، وعلى أي شيء يبنى ترجيحه ؟ الذي ظهر لي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجح في أحد رأي الأكثرين مخالفا لرأيه ، ورجح في بدر الرأي الموافق لرأيه ولم يكن هناك أكثرية ظاهرة ، فيجب أن يراعي الإمام ذلك ، ولا مجال في هذا للتفرق والخلاف .

                          والقول الثاني : أن المخاطبين هم غير أولي الأمر أي العامة ، وصرح بعضهم بأن هذا [ ص: 156 ] يختص بأمر الدين فهو الذي لا يعمل فيه برأي أولي الأمر ، والأولى أن يقال : هم مجموع الأمة ، وعلى هذا يكون للأمة أن تقيم من يحكم فيما يختلف فيه أولو الأمر برده إلى الكتاب والسنة ، ويأتي هنا ما ذكرناه آنفا في الاتفاق والاختلاف .

                          والتنازع من النزع وهو الجذب ؛ لأن كل واحد من المختلفين يجذب الآخر إلى رأيه ، أو يجذب حجته من يده ويلقي بها ، والمسائل الدينية لا ينبغي أن يكون فيها تفرق ولا خلاف أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ( 42 : 13 ) ، لأن العمل فيها بالنص لا بالرأي كما تقدم .

                          ويؤيد القول الأول : آية الاستنباط الآتية وهي قوله تعالى : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( 4 : 83 ) ، فبين أن ما ينظر فيه أولو الأمر هو المسائل العامة كمسائل الأمن والخوف ، وأن العامة لا ينبغي لها الخوض في ذلك بل عليها أن ترده إلى الرسول وإلى أولي الأمر ، وأن من هؤلاء من يتولى أمر استنباطه وإقناع الآخرين به ، وهذه الآية تنفي أن يكون أولو الأمر هم الملوك والأمراء ; لأنهم لم يكن مع الرسول ملوك ولا أمراء ، وأن يكونوا هم العارفين بأحكام الفتوى فقط ; لأن مسائل الأمن والخوف ، وما يصلح للأمة في زمن الحرب يحتاج فيه إلى الرأي الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان ، ولا يكفي فيه معرفة أصول الفقه وفروعه ولا الاجتهاد بالمعنى الذي يقوله علماء الأصول ، وقد بينا ذلك في مواضع كثيرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية