الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إعجاز سورة الكوثر :

                          وأما السورة فهي في أفق أعلى مما قال مسيلمة الكذاب ، ومما عزاه إليه المبشر الجاهل المخادع ، حتى لو فرض أنه قال ما قال من تلقاء نفسه .

                          " الكوثر " في السورة لا يوجد في اللغة ما يحكيه أو يحل محله فيها ، إذ معناه الكثير البالغ منتهى حدود الكثرة في الخير حسيا كان ، كالمال والرجال والذرية والأتباع ، أو معنويا ، كالعلم والهدى والصلاح والإصلاح ، ويشمل الكثير من خيري الدنيا والآخرة .

                          وهو يطلق على السخي الجواد أيضا .

                          وأما موقعه في أول السورة وموقع كلمة " الأبتر " في آخرها اللذان اقتضتهما البلاغة وتأبى أن يحل غيرهما محلهما ، فهو أن رؤساء المشركين المستكبرين كانوا يحقرون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لفقره وضعف عصبيته ، ويتربصون به الموت أو غيره من الدوائر زاعمين أن ما له من قوة التأثير في الأنفس بتلاوة القرآن يزول بزوال شخصه كما قال تعالى : ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) ( 52 : 30 - 31 ) وكانوا يقولون عندما رأوا أبناءه يموتون : بتر محمد ، أو صار أبتر ، أي انقطع ذكره [ ص: 190 ] بانقطاع ولده وعصبيته ، وكانوا يعدون الفقر وانقطاع العقب مطعنا في دينه ، ودليلا على توديع الله له وعدم عنايته به تبعا لاستدلالهم بالغنى وكثرة الولد على رضاء الله تعالى وعنايته كما حكى عنهم سبحانه بقوله : ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) وقد أبطل الله تعالى بهذه السورة شبهتهم ، ودحض حجتهم ، وجعل فألهم شؤما عليهم لما بين من عاقبة أمرهم وأمره ، قال ما تفسيره بالإيجاز :

                          ( إنا ) بما لنا من القدرة على كل شيء ( أعطيناك ) أيها الرسول من خيري الدنيا والآخرة ( الكوثر ) : الذي لا تحد كثرته ولا تحصر ، من الدين الحق ، وهداية الخلق ، وما لا يحصى من الأتباع ، وما لا يحصر من الغنائم ، والنصر على الأعداء ، وما لا ينقطع من الذرية التي تنسب إليك فتذكر بذكرهم ، ويصلى ويسلم عليك وعليهم ، ثم من الشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر والحوض الذي يرده المؤمنون في المحشر ، فلفظ " الكوثر " يشمل كل هذا وغيره ، وإنما يكون كل نوع منه في وقته ، وكان الإخبار به في أول الإسلام من البشارة ونبأ الغيب ، وذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه كقوله : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) ( 16 : 1 ) أو على معنى الإنشاء . . . فأين هذا اللفظ في نفسه وفي موافقته لمقتضى الحال من كلمة " الجماهر " التي استبدلها به مسيلمة الكذاب وهي بالضم الشيء الضخم - أو كلمة " الجواهر " التي ذكرها المبشر المرتاب السباب ، وهي كذب لا مناسبة له ؟

                          ووصل تعالى هذه البشارة العظمى بالأمر بشكرها فقال : ( فصل لربك ) ومتولي أمرك الذي من عليك بهذه النعم وحده مخلصا له الدين ، ( وانحر ) ذبائح نسكك له وحده ، فهو كقوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 : 162 ) وهذا يدل على أنه سيكون له الغلب على المشركين ، الذي يتم بفتح مكة وبحجه ونسكه مع أتباعه - وقد كان - ونحر - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة ناقة ، فهذه بشارة خاصة بعد تلك البشارة العامة ، وكلاهما من أنباء الغيب .

                          ثم قفى على ذلك ببشارة ثالثة : هي تمام الرد على أولئك الطغاة المغرورين بأموالهم وأولادهم أوردها مفصولة غير موصولة بالعطف على ما قبلها ؛ لأنها جواب عن سؤال تقديره : وماذا تكون عاقبة شانئيه ومبغضيه الذين رموه بلقب الأبتر وتربصوا به الدوائر لما يرجون من انقطاع ذكره واضمحلال دعوته ؟ فأجاب : ( إن شانئك ) أي مبغضك وعائبك بالفقر وفقد العقب ( هو الأبتر ) من دونك - وهذا إخبار آخر بالغيب قد صح وتحقق بعد كر السنين ، ولفظ " شانئ " مفرد مضاف فمعناه عام ، فهو يشمل العاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم ممن نقل عنهم ذلك القول فيه - صلى الله عليه وسلم - لفظا أو موافقة لإخوانهم المجرمين ، فقد بتروا كلهم وهلكوا ، ثم نسوا كأنهم ما وجدوا ، وزال ما كانوا يرجون [ ص: 191 ] من بقاء الذكر بالعظمة والرياسة وكثرة الولد والعصبية ، فلم يعد أحد منهم يذكر بخير ، ولا ينسب له عقب .

                          فأنت ترى أن هذه السورة على إيجازها في منتهى الفصاحة والبلاغة ، قد جمعت من المعاني الكثيرة الصحيحة ، ومن أنباء الغيب التي فسرها الزمان ما تعد به معجزة بينة الإعجاز ، وفيها من المعاني واللطائف غير ما ذكرنا ، فيراجع تفسيرها ( في مفاتيح الغيب ) وغيره من المطولات .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية