الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وكفى بالله شهيدا على صحة رسالتك للناس كافة بتأييدك بآياته ، وتصديقك فيما أنذرت به المعرضين ، وبشرت به المؤمنين ، أو شهيدا بأنك لم ترسل إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ، لا مسيطرا عليهم ولا جبارا لهم ، ولا مغيرا لنظام الاجتماع فيهم ، وقيل : إن المراد بالشهادة هنا الشهادة على أولئك الذين قالوا تلك الأقوال المنكرة .

                          تقدم القول بأن هذه الآيات كلها من قوله : ألم تر إلى هنا نزلت في اليهود ، والقول بأن الذي نزل فيهم هو قوله : وإن تصبهم حسنة وما بعده إلى هنا كان يقول هذا يهود المدينة بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها ، وقيل : إنها نزلت في المنافقين ، وهو يؤيد كون السياق فيهم ، وفي مرضى القلوب الذين على مقربة منهم ، لا في ضعفاء الإيمان خاصة كما اختار الأستاذ الإمام ، وله رحمه الله - تعالى - مقال في تفسير هاتين الآيتين ، وكان قد سئل [ ص: 221 ] عنهما فأجاب ونشرنا جوابه في المجلد الثالث من المنار ( ص 157 ) ويحسن أن نضعه هاهنا فهو موضعه وهو :

                          " كان بعض القوم بطرا جاهلا ، إذا أصابه خير ونعمة يقول : إن الله - تعالى - قد أكرمه بما أعطاه من ذلك وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته ، إذا وصل إليه شر - وهو المراد من السيئة - يزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور ، فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده ، كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما ، فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله - تعالى - على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي ، يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه ، وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقي كذلك ، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها ، وهذا هو معنى من عند الله ، أو من عندك ، أي من لدنه ومن خزائن عطائه ، ومن لدنك ومن خزائن رزاياك التي ترمي بها الناس ، فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله : قل كل من عند الله أي : إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده ، وليس ليمن ولا لشؤم مدخل في ذلك ، فهو بيان للفاعل الأول الذي يرد إليه الفعل فيما لا تتناوله قدرة البشر ولا يقع عليه كسبهم ، وهو الذي كان يعنيه أولئك المشاقون عندما يقولون : الحسنة من الله والسيئة من محمد ، أي : إنه لا دخل لاختيارهم في الأولى ولا في الثانية ، وأن الأولى من عناية الله بهم والثانية من شؤم محمد عليهم ، فجاءت الآية ترميهم بالجهل فما زعموا ، ولو عقلوا لعلموا أن ليس لأحد فيما وراء الأسباب المعروفة فعل ، الخير والشر في ذلك سواء .

                          " هذا فيما يتعلق بمن بيده الأمر الأعلى في الخير والشر والنعم والنقم ، أما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك فالأمر على خلاف ما يزعمون ، كذلك فإن الله - سبحانه وتعالى - قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا والبعد عن مساقط الشقاء ، فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت له لأجله وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير ، وذلك إنما يكون بتصحيح الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها ، فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة ، ونبعد عن الشقاء والتعاسة ، وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله - تعالى - ، فما أصابك من حسنة فمن الله ; لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات ، بل واستعمالك لتلك القوى إنما هو من الله ; لأنك لم تأت بشيء سوى استعمال ما وهب الله ، فاتصال الحسنة بالله ظاهر ، ولا يفصلها فاصل لا ظاهر [ ص: 222 ] ولا باطن ، وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا ، وفرطنا في النظر في شئوننا ، وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه ، وغفلنا عن فهمه ، فاتبعنا الهوى في أفعالنا ، وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا ، كان ما أصابنا من ذلك صادرا عن سوء اختيارنا ، وإن كان الله - تعالى - هو الذي يسوقه إلينا جزاء على ما فرطنا ، ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه ، ونسبة الشر والسيئات إلينا في هذه الحالة ظاهرة الصحة ، فأما المواهب الإلهية بطبيعتها فهي متصلة بالخير والحسنات وإنما يبطل أثرها إهمالها ، أو سوء استعمالها ، وعن كلا الأمرين يساق الشر إلى أهله وهما من كسب المهملين وسيئ الاستعمال ، فحق أن ينسب إليهم ما أصيبوا به وهم الكاسبون لسببه ، فقد حالوا بكسبهم بين القوى التي غرزها الله فيهم لتؤدي إلى الخير والسعادة ، وبينما حقها أن تؤدى إليه من ذلك ، وبعدوا بها عن حكمة الله فيها ، وصاروا بها إلى ضد ما خلقت لأجله ، فكل ما يحدث بسبب هذا الكسب الجديد ، فأجدر به ألا ينسب إلا إلى كاسبه .

                          " وحاصل الكلام في المقامين : أنه إذا نظر إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ، ولا يجوز أن يقال إن سواه يقدر على ذلك ، ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلاما ; لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل ، فإن الذي يأتي بالخير ويقدر على سوقه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه ، فالتفريق ضرب من الخبل في العقل .

                          " وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء ولا يكونوا أشقياء ، فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله ; لأنه أحسن استعمال الآلات التي من الله عليه بها ، فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه ، ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه ، فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب ، وليس بسائغ له أن ينسب شيئا من ذلك إلى النبي ولا إلى غيره ، فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره ولم يقهره على إتيان ما كان سببا في الانتقام منه .

                          " فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك - يا محمد - على ما ينالون من خير ، فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير ، وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم ، ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله ، فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته ; لأن الكل من عنده ، وإنما ينعم على من أحسن الاختيار ويسلب نعمته عمن أساءه .

                          [ ص: 223 ] " وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم ، وأن عصيانه من مجالب النقم ، وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه ، وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله " .

                          " ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب ، فإنك لو كنت فقيرا وأعطاك والدك مثلا رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق وصرت بذلك غنيا ، فإنه يحق لك أن تقول : إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى ، أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه ، واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه وحرمك نعمة التمتع به ، فلا ريب أن يقال : إن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها ، مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك ، غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد ، وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يحب ; لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه .

                          " وهناك للآية معنى أدق ، يشعر به ذو وجدان أرق ، مما يجده الغافلون من سائر الخلق ، وهو أن ما وجدت من فرح ومسرة ، وما تمتعت به من لذة حسية أو عقلية ، فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك ، وما خلقت إلا لتكون سعيدا بما وهبك ، أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك ، ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار ، وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك ، ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة ، وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه ، لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة يضيفها طاهيك على ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة ، واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ، ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده والتعرض لنعمه ، والتحول عن مصاب نقمه ، فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب ، ومتاع التعليم والتهذيب وهو متاع تجتني فائدته ، ولا تلتزم طريقته ، فكما يسر طالب الأدب أن يتحمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه ، يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعا بما حصل ، بالغا ما أمل ، وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي ، انتهى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية