الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ، أي : كل من يعمل ما يستطيع عمله من الصالحات - أي الأعمال التي تصلح بها النفوس في أخلاقها وآدابها وأحوالها الشخصية والاجتماعية سواء كان ذلك العامل ذكرا أو أنثى - خلافا لبعض البشر الذين حقروا شأن الإناث فجعلوهن في عداد العجماوات لا في عداد الناس ، من يعمل ما ذكر من الصالحات وهو متلبس بالإيمان مطمئن به ، فأولئك العاملون المؤمنون بالله واليوم الآخر يدخلون الجنة بزكاء أنفسهم وطهارة أرواحهم ، ويكونون مظهر فضل الله تعالى وكرمه ، ومحل إحسانه ورضوانه ، ولا يظلمون من أجور أعمالهم شيئا ما ، أي لا ينقصون شيئا وإن كان بقدر النقير وهو النكتة التي تكون في ظهر النواة وهي ثقبة صغيرة وتسمى نقرة كأنها حصلت بنقر منقار صغير ، ويضرب بها المثل في القلة لا ينقصون شيئا بل يزيدهم الله من فضله ، ولا يعارض هذه الآية والآيات الكثيرة التي بمعناها حديث لن يدخل أحدكم الجنة عمله إلخ ; لأن معناه أن الإنسان مهما عمل من الصالحات لا يستحق على عمله تلك الجنة العظيمة التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، إلا بفضل الله الذي جعل الجزاء الكبير على عمل قليل ، وهو الذي هدى إليه ، وأقدر عليه ، وقد قدم هنا ذكر العمل على ذكر الإيمان ; لأن السياق في خطاب قوم مؤمنين بالله وملائكته وكتبه ورسله قد قصروا في الأعمال واغتروا بالأماني ظانين أن مجرد الانتساب إلى أولئك الرسل والإيمان بتلك الكتب ، هو الذي يجعلهم من أهل جنة الله ، وأكثر الآيات يقدم فيها ذكر الإيمان على ذكر العمل لورودها في سياق بيان أصل الدين ، ومحاجة الكافرين ، والإيمان في هذا المقام هو الأصل المقدم والعمل أثره وممده ، ومن الحديث في معنى الآية الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من أتبع نفسه هواها ، وتمنى على الله قال الحاكم على شرط البخاري .

                          هذا وإن في هاتين الآيتين من العبرة والموعظة ما يدك صروح الأماني ومعاقل الغرور التي يأوي إليها ويتحصن فيها الكسالى والجهال والفساق من المسلمين الذين جعلوا الدين كالجنسية السياسية ، وظنوا أن الله العزيز الحكيم يحابي من يسمي نفسه مسلما ، ويفضله على من يسميها يهوديا أو نصرانيا بمجرد اللقب ، وأن العبرة بالأسماء والألقاب لا بالعلم والعمل ، ومتى يرجع هؤلاء إلى هدي كتابهم الذي يفخرون به ، ويبنون قصور أمانيهم على دعوى اتباعه ؟ وقد نبذوه وراء ظهورهم ، وحرموا الاهتداء به على أنفسهم ; لأن بعض المعممين [ ص: 357 ] سموا الاهتداء به من الاجتهاد الذي أقفل دونهم بابه ، وانقرض في حكمهم أربابه ، ولا تلازم بين الاهتداء بالقرآن ، والقدرة على استنباط ما تحتاج إليه الأمة من الأحكام ، فقد كان عامة أهل الصدر الأول من هؤلاء المهتدين ، ولم يكونوا كلهم أئمة مستنبطين ، وقد يقدر على الاستنباط من لم يكن قائما على هذا الصراط ، فيا أهل القرآن ! لستم على شيء حتى تقيموا القرآن ، وتهتدوا بهديه في الإيمان والأعمال ، وتبذلوا في سبيله الأنفس والأموال وإلا فقد رأيتم ما حل بكم بعد ترك هدايته من الخزي والنكال ، وضياع الملك وسوء الحال فإلى متى هذا الغرور والإهمال ، وحتام تتعللون بالأماني وكواذب الآمال ؟

                          هذا ومن أراد زيادة البصيرة في غرور المسلمين بدينهم على تقصيرهم في العمل به وفي نشره والدعوة إليه فليراجع كتاب الغرور في آخر الجزء الثالث من كتاب الإحياء للغزالي ولولا أنني الآن حلف أسفار ، لا يقر لي في بلد قرار ، لأطلت بعض الإطالة في بيان الغرور والمغترين ، والأماني والمتمنين ، إثارة لكوامن العبرة واستدرارا لبواخل العبرة ، وليس عندي في هذه الآية شيء من الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى .

                          ولما بين تعالى أن أمر النجاة بل السعادة منوط بالعمل والإيمان معا ، أتبع ذلك بيان درجة الكمال في ذلك وهو الدين القيم فقال :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية