الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( الثالث : لحم الخنزير ) وحكمة تحريمه ما فيه من الضرر ، وكونه مما يستقذر أيضا ، وإن كان استقذاره ليس لذاته كالميتة والدم ، بل هو خاص بمن يتذكر ملازمته للقاذورات ورغبته فيها ; ولهذا المعنى ورد النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها ، وهي التي تأكل العذرة والجلة ، أي البعر ( والجلالة صيغة مبالغة ، وهي كالجلة بفتح الجيم وتشديد اللام ) فروى أحمد وأصحاب السنن الثلاثة ، وصححه الترمذي منهم ، كما صححه البيهقي عن ابن عباس : " نهى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم عن شرب لبن الجلالة " وروي بلفظ : " وعن أكل الجلالة وشرب ألبانها " وصححه ابن دقيق العيد ، وروى أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه عن ابن عمر مثله ، قال : " نهى رسول الله ، صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها . وقد اختلف في وصله وإرساله ، واختلف العلماء في النهي عن الجلالة من الأنعام وغيرها ; كالدجاج والأوز ، هل العبرة بعلفها قلة وكثرة ، أم العبرة برائحة لحمها ؟ وهل النهي للتحريم أم للكراهة ؟ وقال بعض أئمة الفقه : لا تؤكل حتى تحبس عن أكل القذر أياما ، واختلفوا في مدة الحبس ، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا ، ولم ير بأكلها بأسا ، والغرض من هذا ، أن الإسلام طيب أحل الطيبات ، وحرم الخبائث ، وبالغ في أمر النظافة ، فلا غرو إذا عد أكل الخنزير للقاذورات علة أو حكمة من علل تحريم لحمه أو حكمها وإن لم يترتب عليه ضرر ، فكيف إذا ترتب عليه ضرر عظيم ؟

                          [ ص: 113 ] وأما كون أكل لحم الخنزير ضارا فهو مما يثبته الطب الحديث . وجل ضرره ناشئ من أكله للقاذورات ، فمنه أنه يولد الديدان الشريطية ، كالدودة الوحيدة نعوذ بالله منها ، وسبب سريان ذلك إليه أكل العذرة ، ومنه أنه يولد دودة أخرى يسميها الأطباء الشعرة الحلزونية ، وهي تسري إلى الخنزير من أكل الفيران الميتة ; ومنه أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم في أليافه العضلية ، وقد تحول الأنسجة الدهنية التي فيه دون عصير المعدة ، فيعسر هضم المواد الزلالية للعضلات ، فتتعب معدة آكله ، ويشعر بثقل في بطنه واضطراب في قلبه ، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة ، وإلا تهيجت الأمعاء وأصيب بالإسهال ، ولولا العادة التي تسهل على كثير من الناس تناول السموم أكلا وشربا وتدخينا ، ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير ; لتخفيف ضرره - لما أمكن الناس أن يأكلوه ، ولا سيما أهل البلاد الحارة ، ومن أراد أن يعرف كنه الضرر الذي ذكرناه مفصلا بعض التفصيل فليراجع المجلد السادس من المنار ( ص 302 - 308 ) .

                          فإن قلت : إن آية الأنعام عللت تحريم أكل لحم الخنزير بكونه رجسا ، فهل معنى ذلك أكله للقذر ، أم ما فيه من الضرر ؟ فاعلم أن لفظ " الرجس " يطلق على كل ضار مستقبح حسا أو معنى ، فيسمى النجس رجسا ، ويسمى الضار رجسا ، ومن الأخير قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ( 5 : 90 ) فتعليل آية الأنعام يشمل الأمرين اللذين ذكرناهما معا ، فهي من إيجاز القرآن الذي لا يصل الناس إلى شرحه وتفصيله ، إلا باتساع دائرة علومهم وتجاربهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية