الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله الطيب : ضد الخبيث ، والمقابلة بينهما في القرآن كثيرة كقوله تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ( 5 : 100 ) وقد استعملا في الأناسي والأشياء والأفعال والأقوال ، ومنه مثل الكلمة الخبيثة والكلمة الطيبة في سورة إبراهيم ، ومنه بلدة طيبة ( 34 : 15 ) قال الراغب : المخبث والخبيث ما يكره رداءة وخساسة محسوسا كان أم معقولا ، وأصله : الرديء الدخلة الجاري مجرى خبث الحديد . اهـ . وقال في الحرف الآخر : وأصل الطيب ما تستلذه الحواس ، وما تستلذه النفس . اهـ . فجعل الطيب أخص من مقابله في بابه ، والصواب ما قلناه ، والطيبات من الطعام هي ما تستطيبه النفوس السليمة الفطرة المعتدلة المعيشة ، بمقتضى طبعها ، فتأكله باشتهاء ، وما أكله الإنسان باشتهاء هو الذي يسيغه ويهضمه بسهولة ، فيتغذى به غذاء صالحا ، وما يستخبثه ويعافه لا يسهل عليه هضمه ، ولا ينال منه غذاء صالحا ، بل يضره غالبا فما حرمه الله في الآية السابقة خبيث بشهادة الله الموافقة لفطرته التي فطر الناس عليها ، فما زال السواد الأعظم من أصحاب الطباع السليمة والفطرة المعتدلة يعافون أكل الميتة حتف أنفها ، وما مثلها من فرائس السباع والمترديات والنطائح ونحوها ، وكذلك الدم المسفوح ، وأما لحم الخنزير فإنما يعافه من يعرف ضرره وانهماكه في أكل الأقذار . و " الجوارح " : جمع جارحة ، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور كما قال الراغب .

                          قال المفسرون : سميت الصوائد جوارح من الجرح ، بمعنى الكسب ; فهي كالكاسب من الناس ، قال تعالى : ويعلم ما جرحتم بالنهار ( 6 : 60 ) أي : كسبتم ، وقيل : من الجرح : بمعنى الخدش ، أي إن من شأنها أن تجرح ما تصيده . و " مكلبين " اسم فاعل من التكليب ، وهو تعليم الجوارح وتأديبها وإضراؤها بالصيد ، وأصله تعليم الكلاب ، غلب لأنه الأكثر ، وقيل : إنه من الكلب بالتحريك ، بمعنى الضراوة ، يقال : هو كلب - ككتف - بكذا ، إذا كان ضاريا به ، وموضع مكلبين : النصب على الحال ، وكذلك جملة تعلمونهن مما علمكم الله أو هي استئناف ، أي : أنتم تعلمونهن مما علمكم الله ، أي مما ألهمكم الله إياه وهداكم إليه من ترويضها والانتفاع بتعليمها ، وما ألهمكم ذلك الانتفاع إلا وهو يبيحه لكم ، ونكتة هذه الجملة على القول بأنها حالية مراعاة استمرار تعاهد الجوارح بالتعليم ; لأن إغفالها ينسيها ما تعلمت ، فتصطاد لنفسها ولا تمسك على صاحبها ، وإمساكها عليه [ ص: 142 ] شرط لحل صيدها ، نص عليه في الجملة التي بعد هذه ، وهذا التعليل الذي ألهمنيه الله - تعالى - أظهر مما قالوه من أنه المبالغة في اشتراط التعليم ، وإذا كانت الجملة استئنافا فنكتتها تذكير الناس بفضل الله عليهم بهدايتهم إلى مثل هذا التعليم على سنة القرآن في مزج الأحكام بما يغذي التوحيد وينمي الاعتراف بفضل الله وشكر نعمه . وغاية تعليم الجارح أن يتبع الصيد بإغراء معلمه أو الصائد به ، ويجيب دعوته وينزجر بزجره ، ويمسك الصيد عليه .

                          والمعنى : أحل لكم أكل الطيبات كلها ، وصيد ما علمتم من الجوارح بشرطه . أما الطيبات فظاهر الحصر في آيتي الأنعام والنحل أن كل ما عدا المنصوص من المحرمات طيب فهو حلال ، ولولاه لكان الظاهر أن يقال : إن من الطعام ما هو خبيث محرم بنص الكتاب ، وهو ما ذكر في الآية السابقة ، ومنه ما هو طيب حل بنص الكتاب ; كبهيمة الأنعام وصيد البر والبحر ، أي ما شأنه أن يصاد منهما . فأما البحر فكل حيوانه يصاد ، وأما البر فإنما يصاد منه للأكل في العادة والعرف الغالب ، ما عدا سباع الوحش والطير ، فتكون هذه السباع حراما ، وهو ظاهر حديث ابن عباس : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . وحديث أبي ثعلبة الخشني : كل ذي ناب من السباع فأكله حرام رواهما أحمد ومسلم وأصحاب السنن ، ما عدا الترمذي في الأول ، وأبا داود في الثاني . ومن أخذ بالحصر في الآيتين جعل النهي عما ذكر نهي كراهة ، وهو المشهور من مذهب مالك ، كما قاله ابن العربي ، وقال ابن رسلان : مشهور مذهبه على إباحة ذلك ، وهو لا ينافي كراهة التنزيه ، وكأنه يرى أن حديث أبي ثعلبة مروي بالمعنى إن كان قد بلغه . والسبع عند الشافعي : ما يعدو على الناس والحيوان ; فيخرج الضبع والثعلب ; لأنهما لا يعدوان على الناس ، وعند أبي حنيفة كل ما أكل اللحم ، قالوا : فيدخل فيه الضبع والضب والنمر واليربوع والفيل ، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أجاز أكل الضب ، كما في حديث خالد بن الوليد ، وحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما ، وأحاديث أخرى ، وصرح بأنه يعافه لأنه لم يكن في أرض قومه . وأجاز أكل الضبع ، رواه أحمد والشافعي وأصحاب السنن وغيرهم ، وصححه الترمذي وغيره ، وهو يدل لما ذكرناه من أخذ تحريم السباع من مفهوم الصيد ، ونصه عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن أبي عمارة ، قال : " قلت لجابر : الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم ، قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم .

                          ويمكن أن يقال أيضا - لولا ما ذكر من الحصر - أن ما لا نص في الكتاب على حله أو على حرمته قسمان : طيب حلال وخبيث حرام ، وهل العبرة في التمييز بينهما ذوق أصحاب الطباع السليمة ، أو يعمل كل أناس بحسب ذوقهم ؟ كل من الوجهين محتمل ، [ ص: 143 ] والموافق لحكمة التحريم : الثاني ، وهو أنه يحرم على كل أحد أن يأكل ما تستخبثه نفسه وتعافه ; لأنه يضره ولا يصلح لتغذيته ، ولذلك قال بعض الحكماء : ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته ، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك . ويروى عن الشافعي أن العبرة ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب الذين خوطبوا بهذا أولا ، ويرد عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاف أكل الضب وعلله بأنه ليس في أرض قومه ، وأذن لغيره بأكله وصرح بأنه لا يحرمه ، فلا يحكم بذوق قوم على ذوق غيرهم ، وليس هذا أمرا يتعلق باللغة حتى يقال : إنهم هم الذين خوطبوا بهذا النص أولا ، فالعبرة بما يفهمونه منه ، والناس لهم فيه تبع ، بل هو أمر متعلق بالأذواق والطباع ، ومعناه : أحل لكم أيها المكلفون ما يستطاب أكله ويشتهى ، دون ما يستخبث ويعاف ، وحينئذ تكون العبرة بالسواد الأعظم من سليمي الطباع غير ذوي الضرورات والمعيشة الشاذة ، أو يختلف باختلاف الطباع بين الأقوام . واختلف الفقهاء فيما ينتن : أيحرم أم يكره ؟ وهو خبيث لغة وعرفا ، ولا يرد على الحصر المار لأن خبثه عارض ، وكل حلال يعرض له وصف يصير به ضارا يحرم - كاختمار العصير - فإن زال حل ; كتخلل الخمر .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية