الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( مذهب الشافعي في طعام أهل الكتاب ) قال الشافعي - رحمه الله تعالى - في كتاب الصيد والذبائح من الأم ، ما نصه : ( 1 ) أحل الله طعام أهل الكتاب ، وكان طعامهم عند بعض من حفظت عنه من أهل التفسير : ذبائحهم ، وكانت الآثار تدل على إحلال ذبائحهم ، فإن كانت ذبائحهم يسمونها لله - تعالى - فهي حلال ، وإن كان لهم ذبح آخر يسمون عليه غير اسم الله - تعالى - مثل اسم المسيح ، أو يذبحونه باسم دون الله - تعالى - لم يحل هذا من ذبائحهم ، ولا أثبت أن ذبائحهم هكذا ، فإن قال قائل : وكيف زعمت أن ذبائحهم صنفان ، وقد أبيحت مطلقة ؟ قيل : قد يباح الشيء مطلقا ، وإنما يراد بعضه دون بعض ، فإذا زعم زاعم أن المسلم إن نسي اسم الله - تعالى - أكلت ذبيحته ، وإن تركه استخفافا لم تؤكل ذبيحته ، وهو لا يدعه للشرك ، كان من يدعه على الشرك أولى أن تترك ذبيحته ، وقد أحل الله - عز وجل - لحوم البدن ( الإبل ) مطلقة ، فقال : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها ( 22 : 36 ) أي إذا سقطت جنوبها فكلوا منها ، ووجدنا بعض المسلمين يذهب إلى أنه لا يؤكل من البدنة التي هي نذر ، ولا جزاء صيد ، ولا فدية . فلما احتملت هذه الآية ذهبنا إليه وتركنا الجملة ، لا أنها خلاف للقرآن ، ولكنها محتملة ، ومعقول أن من وجب عليه شيء في ماله لم يكن له أن يأخذ منه شيئا ، لأنا إذا جعلنا له أن يأخذ منه شيئا فلم نجعل عليه الكل ، إنما جعلنا عليه البعض الذي أعطى ، فهكذا ذبائح أهل الكتاب بالدلالة على شبيه ما قلنا . انتهى بحروفه ( ص 196 ج 2 من الأم ) .

                          أقول : إنه - رحمه الله تعالى - حرم ما ذكروا اسم غير الله عليه ، بأقيسة على مسائل خلافية جعلها نظيرا للمسألة ، وقيد بها إطلاق القرآن ، ومخالفوه في ذلك - كمالك وغيره - لا يجيزون تخصيص الآية بمثل هذه الأقيسة التي غاية ما تدل عليه أن تخصيص القرآن جائز بالدليل ، ولهم أن يقولوا لنا : لا نسلم أن المسلم الذي يترك التسمية تهاونا واستخفافا ، لا تحل ذبيحته ، وإذا سلمناه جدلا ، نمنع قياس الكتابي عليه فيما ذكر ، ولا محل هنا لبيان المنع بالتفصيل في هذا القياس وفيما بعده ، وهو أبعد منه ، والظاهر مما تقدم من نصوص المالكية من أن ما ذبحوه [ ص: 175 ] لغير الله ، إن كانوا لا يأكلونه : فهو غير حل للمسلم ، وإن كانوا يأكلونه فهو من طعامهم الذي أطلق الله - تعالى - حله وهو يعلم ما يقولون وما يفعلون ، وهذا القول يظهر لنا نكتة التعبير بالطعام دون المذبوح أو المذكى ; لأن من المذكى ما هو عبادة محضة لا يذكونه لأجل أكله .

                          ( 2 ) ذهب الشافعي إلى أن ذبائح نصارى العرب لا تؤكل ، واحتج بأثر رواه عن عمر - رضي الله عنه - قال : " ما نصارى العرب بأهل كتاب ، وما تحل لنا ذبائحهم ، وما أنا بتاركهم حتى يسلموا ، أو أضرب أعناقهم " . وبقول علي - كرم الله وجهه - المشهور في بني تغلب . فأما أثر علي - كرم الله وجهه - وقد تقدم فهو حجة على الشافعي لا له ; لأنه خاص ببعض العرب مصرح فيهم بأنهم ليسوا نصارى ، وأما أثر عمر - رضي الله عنه - فرواه في الأم عن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، وقد ضعفه الجمهور وصرح بعضهم بكذبه ، وممن طعن فيه مالك وأحمد ، ومما قيل فيه أنه جمع أصول البدع : فكان قدريا جهميا معتزليا رافضيا ، وقد سئل الربيع حين نقل عن الشافعي أنه كان قدريا : ما حمل الشافعي على أن روى عنه ؟ فأجاب بأنه كان يبرئه من الكذب ويرى أنه ثقة في الحديث ; أي والعبرة في الحديث بالصدق لا بالمذهب ، وقال ابن حبان بعد أن وصفه بالبدعة وبالكذب في الحديث : وأما الشافعي فإنه كان يجالس إبراهيم في حداثته ويحفظ عنه ، فلما دخل مصر في آخر عمره وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار ، ولم تكن كتبه معه ، فأكثر ما أودع الكتب من حفظه ، وربما كنى عن اسمه . وقال إسحاق بن راهويه : ما رأيت أحدا يحتج بإبراهيم بن يحيى مثل الشافعي ، قلت للشافعي : وفي الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن يحيى ؟ . انتهى ملخصا من تهذيب التهذيب . ومما يدل على عدم صحة الأثر ، عدم العمل به على أنه رأي صحابي خالفه فيه الجمهور ، فلا يحتج به وإن صح .

                          ( 3 ) قال الشافعي في باب الذبيحة وفيه من يجوز ذبحه ( من الأم ص 205 و 206 ج2 ) : وذبح كل من أطاق الذبح من امرأة حائض ، وصبي من المسلمين أحب إلي من ذبح اليهودي والنصراني ، وكل حلال الذبيحة ، غير أني أحب للمرء أن يتولى ذبح نسكه ; أي كالأضحية والهدي ، فإنه يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من أهله فاطمة أو غيرها : احضري ذبح نسيكتك ; فإنه يغفر لك عند أول قطرة منها .

                          قال الشافعي : وإن ذبح النسيكة غير مالكها أجزأت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر بعض هديه ونحر بعضه غيره ، وأهدى هديا فإنما نحره من أهداه معه ، غير أني [ ص: 176 ] أكره أن يذبح شيئا من النسائك مشرك ; لأن يكون ما تقرب به إلى الله على أيدي المسلمين فإن ذبحها مشرك تحل ذبيحته أجزأت ، مع كراهتي لما وصفت .

                          " ونساء أهل الكتاب إذا أطقن الذبح كرجالهم ، وما ذبح اليهود والنصارى لأنفسهم مما يحل للمسلمين أكله من الصيد أو بهيمة الأنعام ، وكانوا يحرمون منه ، شحما أو حوايا - أي ما يحوي الطعام كالأمعاء - أو ما اختلط بعظم أو غيره ، إن كانوا يحرمونه فلا بأس على المسلمين في أكله ; لأن الله - عز وجل - إذ أحل طعامهم وكان ذلك عند أهل التفسير ذبائحهم ; فكل ما ذبحوا لنا ففيه شيء مما يحرمون ، فلو كان يحرم علينا إذا ذبحوه لأنفسهم من أصل دينهم بتحريمهم لحرم علينا إذا ذبحوه لنا ، ولو كان يحرم علينا بأنه ليس من طعامهم ، وإنما أحل لنا طعامهم وكان ذلك على ما يستحلون ، كانوا قد يستحلون محرما علينا يعدونه لهم طعاما ، فكان يلزمنا لو ذهبنا هذا المذهب أن نأكله ; لأنه من طعامهم الحلال لهم عندهم ، ولكن ليس هذا معنى الآية ، معناها ما وصفنا ، والله أعلم " .

                          هذا نص الشافعي ، فمذهبه أن المراد بطعامهم في الآية ، ذبائحهم خاصة لا عموم الطعام ، فما ذبحوه مما هو حلال لنا كذبائحنا ، لا فرق بين ما حرم عليهم منه وما حل لهم ، وما حرم علينا لا يحل إذا كان من طعامهم ، وهو مخالف ، في هذا للمذاهب الأخرى التي أخذت بعموم لفظ الآية وعدتها كالاستثناء مما حرم علينا ، إلا الميتة ولحم الخنزير ; فإنهما محرمان لذاتهما لا لمعنى يتعلق بالتذكية أو بما يذكر عليهما ، وقد تقدم ذلك ، وقد شرح كون ما أحل لنا مما حرم عليهم ، لا يحرم من ذبائحهم في موضع آخر ( ص 209 و 210 منه ) وبين هنا أنه يجب على كل عاقل بلغته دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يتبعه في أصول شرعه وفروعه وحلاله وحرامه ، فما كان حراما عليهم صار حلا لهم بشرعه وحلا لنا بالأولى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية