الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الفرض الثالث : المسح بالرأس في قوله : وامسحوا برءوسكم الرأس معروف ، ويمسح ما عدا الوجه منه ; لأن الوجه شرع غسله لسهولته ، وكيفية المسح المبينة في السنة ، أن يمسحه كله بيديه إذا كان مكشوفا ، وإذا كان عليه عمامة ونحوها يمسح ما ظهر منه ، ويتم المسح على العمامة ، روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن عن عبد الله بن زيد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، وروى مسلم ، والترمذي عن المغيرة بن شعبة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين ، وروى أحمد والبخاري وابن ماجه عن عمرو بن أمية الضمري ، قال : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على عمامته وخفيه ، وروى أحمد ومسلم وأصحاب السنن ، ما عدا أبا داود ، عن بلال قال : مسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخفين والخمار ، والخمار : الثوب الذي يوضع على الرأس ، وهو النصيف ، وكل ما ستر شيئا فهو خماره ، وفسره النووي هنا بالعمامة ; أي للرجال ; لأنها تستر الرأس ، وخمر النساء معروفة ، وروي المسح على العمامة أو الخمار أو العصابة عن كثير من الصحابة يرفعونه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم سلمان الفارسي ، وثوبان وأبو أمامة وأبو موسى وأبو خزيمة ، وظاهر الروايات أن المسح كان يكون على العمامة وما في معناها من ساتر وحده ، والأخذ به مروي عن بعض الصحابة والتابعين ; منهم أبو بكر وعمر وأنس وأبو أمامة وسعد بن مالك وعمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة ، وقال بجوازه جماعة من علماء الأمصار ; منهم الأوزاعي وأحمد وإسحاق ، وأبو ثور وداود ، وقال الشافعي : إن صح الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبه أقول ، وقد صح كما علمت ، ولكن الشافعية لا يقولون به ، ولم يشترط أحد من هؤلاء للمسح عليها لبسها على طهر ، ولا التوقيت ; إذ لم يرو فيه شيء يحتج به ، إلا أن أبا ثور قاس المسح عليها على المسح على الخف ، فاشترط الطهارة ووقت ، والجمهور الذين لم يجيزوا المسح على العمامة وحدها ، قال من بلغته الأخبار منهم : إن المراد المسح عليها مع جزء من الرأس ; كالرواية التي فيها ذكر الناصية . [ ص: 186 ] ومن مانعي الاقتصار عليها سفيان وأبو حنيفة ومالك والشافعي ، ولكنه قال : إذا صح الحديث بها قال به ، كما تقدم آنفا ، وظاهر الروايات الإطلاق ، وقد ورد في كثير من تلك الأخبار ذكر المسح على العمامة مع المسح على الخف ، وقد كان نزع كل منهما حرجا وعسرا ، ففي مسحه نفي الحرج المنصوص عليه في الآية مع عدم منافاته لحكمة الوضوء وعلته المنصوصة أيضا ، وهي الطهارة والنظافة ، فإن العضو المستور يبقى نظيفا ، ولا حرج الآن في رفع العمائم في الحجاز ومصر والشام وبلاد الترك على الرأس لأجل مسحه من تحتها في الجملة ; لأنها توضع على قلانس ترفع معها بسهولة ، ولكن يعسر مسحه كله باليدين كلتيهما على الوجه الذي رواه الجماعة ، وأما أهل الهند وأهل المغرب الذين يحتنكون بالعمامة كما كان يفعل السلف ، فيعسر عليهم رفع عمائمهم عند الوضوء ، والاحتياط أن يظهروا ناصيتهم كلها أو بعضها ، فيمسحوا بها ، ويتمموا المسح على العمامة ; ليكون وضوءهم صحيحا على جميع الروايات ، ومن مسح شيئا أو بشيء عليه ساتر ، قد يقال : إنه مسح ذلك الشيء ، أو به ، كما إذا قلت : وضعت يدي على رأسي ، أو على صدري ، لا يشترط في كون ذلك حقيقة ، ألا يكون عليه ساتر ، وإنما نقول هنا : إن الأصل المسح بالرأس بدون ساتر ; لأن الغرض من فرضيته تنظيفه من نحو الغبار ، وهو المتيسر ، فإذا كان عليه ساتر لا يصيبه الغبار .

                          وقد اختلف فقهاء الأمصار في أقل ما يحصل به فرض مسح الرأس ، فقال الشافعي في الأم : " إذا مسح الرجل بأي رأسه شاء ، إن كان لا شعر عليه ، وبأي شعر شاء بأصبع واحدة ، أو بعض أصبع ، أو بطن كفه ، أو أمر من يمسح له - أجزأه ذلك " انتهى . وبين فيه أن أظهر معنيي الآية أن من مسح من رأسه شيئا فقد مسح برأسه ، وأن مقابل الأظهر مسح الرأس كله ، ولكن دلت السنة على أنه غير مراد ; فتعين الأول ، وذكر من السنة حديث المغيرة في المسح على الناصية والعمامة ، وحديثا مرسلا في معناه عن عطاء ، وسيأتي ، وقال : " الجزء الممسوح يجب أن يكون من الرأس نفسه ، أو من الشعر الذي عليه " .

                          وقال الثوري والأوزاعي والليث : " يجزي مسح بعض الرأس ، ويمسح المقدم ، وهو قول أحمد وزيد بن علي والناصر والباقر والصادق من أئمة أهل البيت ، وذهب أكثر العترة ومالك ، والمزني والجبائي إلى وجوب مسحه كله ، وهو رواية عن أحمد ، قاله في نيل الأوطار ، وقال أبو حنيفة : " يجب مسح ربع الرأس " ولا يعرف هذا التحديد عن غيره ، قيل : إن منشأ الخلاف ( الباء ) في قوله تعالى : برءوسكم هل هي للتبعيض ; فيجزئ مسح بعض الرأس ، أم زائدة ; فيجب مسحه كله ، أم هي للإلصاق الذي هو أصل معناها ؟ ووجه الحنفية قول إمامهم على هذا بأن المسح إنما يكون باليد ، وهي تستوعب مقدار الربع في الغالب ; فوجب تعينه ، وهذا أشد الأقوال تكلفا ، ولم يقل أبو حنيفة ولا أحد من المسلمين أنه يشترط المسح بمجموع اليد ، فلو مسح ببعض أصابعه ، ربع رأسه أجزأه عند [ ص: 187 ] أبي حنيفة ، وليست اليد ربع الرأس بالتحديد ، وقد عبروا هم أنفسهم بقولهم : غالبا .

                          ولو كان مراد أبي حنيفة قدر اليد لعبر به ، والحديث ليس نصا في مسح جميع الناصية ، فالخلاف في مسح الرأس يجري في مسح الناصية ; فالاستدلال بمسحها مصادرة . ونازع بعضهم في كون الباء تفيد التبعيض مطلقا ، وقيل : استقلالا ، وإنما تفيدها مع معنى الإلصاق ، ولا يظهر معنى كونها زائدة ، والتحقيق : أن معنى الباء الإلصاق ، لا التبعيض أو الآلة ، وإنما العبرة بما يفهمه العربي من : مسح بكذا ، ومسح كذا ; فهو يفهم من كلمة : مسح العرق عن وجهه : أنه أزاله بإمرار يده أو أصبعه عليه ، ومن مسح رأسه بالطيب أو الدهن : أنه أمره عليه ، ومن مسح الشيء بالماء : أنه أمر عليه ماء قليلا ليزيل ما علق به من غبار أو أذى ، ومن مسح يده بالمنديل : أنه أمر عليها المنديل كله أو بعضه ليزيل ما علق بها من بلل أو غيره ، ومن مسح رأس اليتيم أو على رأسه ، ومسح بعنق الفرس أو ساقه أو بالركن أو الحجر : أنه أمر يده عليه ، لا يتقيد ذلك بمجموع الكف الماسح ، ولا بكل أجزاء الرأس أو العنق أو الساق أو الركن أو الحجر الممسوح ، فهذا ما يفهمه كل من له حظ من هذه اللغة مما ذكر ، ومن قوله تعالى : فطفق مسحا بالسوق والأعناق ( 38 : 33 ) على القول الراجح المختار ، أن المسح باليد لا بالسيف ، ومن مثل قول الشاعر :


                          ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح

                          والأقرب : أن سبب الخلاف ما ورد من الأحاديث في المسح ، مع مفهوم عبارة الآية ، قيل : إن العبارة مجملة بينتها السنة ، وصرح الزمخشري بأنها مطلقة ، وجعل المطلق من المجمل ، والتحقيق عند أهل الأصول أن المطلق ليس بمجمل لأنه يصدق على الكل والبعض ، فأيهما وقع حصل به الامتثال ، ولو سلم أنه مجمل لكان الصحيح في بيانه ما تقدم من أن المسح يكون على الرأس كله مكشوفا ، وعلى بعضه مع التكميل على العمامة كما ورد في الصحاح ، ولم يرد حديث متصل بمسح البعض ، إلا حديث أنس عند أبي داود قال : " رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ ، وعليه عمامة قطرية ، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ، ولم ينقض العمامة . وهذا الحديث لا يحتج به لأن أبا معقل الذي رواه عن أنس مجهول ، وقال الحافظ ابن حجر : في إسناده نظر ، وقال ابن القيم في زاد المعاد : " إنه لم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث واحد أنه اقتصر على مسح بعض رأسه ، ألبتة ، ولكنه كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة ، وأما حديث أنس - وذكره كما تقدم آنفا - فهذا مقصود أنس به ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الشعر كله ، ولم ينف التكميل على العمامة ، وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره ، فسكوت أنس عليه لا يدل على نفيه " انتهى .

                          [ ص: 188 ] وقد علمت أن حديث أنس لا يحتج به ، ومثله يقال في حديث عطاء المرسل الذي احتج به الشافعي في الأم على الاكتفاء بالبعض ، والحنفية على الربع ، وهو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه ، أو قال ناصيته ، وهذا بصرف النظر عن الخلاف في الاحتجاج بالمرسل ، وقد منعه جمهور الأمة من أهل السنة وغيرهم ، وقال به أبو حنيفة وجمهور المعتزلة والشافعي لا يحتج بالمرسل . وقد رواه عن مسلم بن خالد المكي الفقيه ، وهو ثقة عنده ، ووثقه ابن معين مرة ، وضعفه أخرى ، كما ضعفه أبو داود ، وقال البخاري : منكر الحديث . والجرح مقدم على التعديل ، وقد علمت أنه لا يدل على وجوب مسح الربع .

                          وجملة القول أن ظاهر الآية الكريمة أن مسح بعض الرأس يكفي في الامتثال ، وهو ما يسمى مسحا في اللغة ، ولا يتحقق إلا بحركة العضو الماسح ملصقا بالممسوح ، فوضع اليد أو الأصبع على الرأس أو غيره لا يسمى مسحا ، ولا يكفي مسح الشعر الخارج عن محاذاة الرأس كالضفيرة ، وأن لفظ الآية ليس من المجمل ، وأن السنة أن يمسح الرأس كله إذا كان مكشوفا ، وبعضه إذا كان مستورا ، ويكمل على الساتر ، وأن ظاهر الأحاديث جواز المسح على الساتر وحده ، والاحتياط أن يمسح معه جزءا من الرأس ، والله أعلم .

                          الفرض الرابع : غسل الرجلين فقط ، أو مع مسحهما ، أو مسحهما بارزتين أو مستورتين بالخف أو غيره ، قال تعالى : وأرجلكم إلى الكعبين قرأ نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب : ( وأرجلكم ) بالفتح ; أي واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين ، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق من الجانبين ، وقرأها الباقون : ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم ، بالجر ، والظاهر أنه عطف على الرأس ; أي وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين ، ومن هنا اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما ; فالجماهير على أن الواجب هو الغسل وحده ، والشيعة الإمامية أنه المسح ، وقال داود بن علي والناصر للحق ، من الزيدية : يجب الجمع بينهما ، ونقل عن الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري ، أن المكلف مخير بينهما ، وستعلم أن مذهب ابن جرير الجمع .

                          أما القائلون بالجمع فأرادوا العمل بالقراءتين معا للاحتياط ، ولأنه المقدم في التعارض إذا أمكن ، وأما القائلون بالتخيير فأجازوا الأخذ بكل منهما على حدته ، وأما القائلون بالمسح فقد أخذوا بقراءة الجر وأرجعوا قراءة النصب إليها ، وذكر الرازي عن القفال أن هذا قول ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر . وقال الحافظ ابن حجر في الفتح ، عند ذكر مذهب الجمهور : ولم يثبت عن أحد من الصحابة خلاف هذا ، إلا عن علي وابن عباس وأنس ، وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك ، وأما الجمهور فقد أخذوا بقراءة النصب وأرجعوا قراءة الجر إليها ، وأيدوا ذلك بالسنة الصحيحة وإجماع الصحابة . [ ص: 189 ] ، ويزاد على ذلك أنه هو المنطبق على حكمة الطهارة ، وادعى الطحاوي وابن حزم أن المسح منسوخ .

                          وعمدة الجمهور في هذا الباب عمل الصدر الأول وما يؤيده من الأحاديث القولية ، وأصحها حديث ابن عمر في الصحيحين ، قال : " تخلف عنا ، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة ، فأدركنا وقد أرهقنا العصر ، فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : ويل للأعقاب من النار ، مرتين أو ثلاثا " وقد يتجاذب الاستدلال بهذا الحديث الطرفان ، فللقائلين بالمسح أن يقولوا إن الصحابة كانوا يمسحون ، فهذا دليل على أن المسح كان هو المعروف عندهم ، وإنما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم عدم مسح أعقابهم ، وذهب البخاري إلى أن الإنكار عليهم كان بسبب المسح ، لا بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل ، ذكره في نيل الأوطار ، ثم قال : قال الحافظ ، أي ابن حجر : " وهذا ظاهر الرواية المتفق عليها " وفي أفراد مسلم : " فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء " فتمسك بهذا من يقول بإجزاء المسح ويحمل الإنكار على ترك التعميم ، لكن الرواية المتفق عليها أرجح ، فتحمل عليها هذه الرواية بالتأويل ، وهو أن معنى قوله : لم يمسها الماء : أي ماء الغسل ؛ جمعا بين الروايتين . وأصرح من ذلك رواية مسلم عن أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا لم يغسل عقبه ، فقال ذلك " انتهى . وهذه واقعة أخرى .

                          وقد روى ابن جرير المسح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن كثير من الصحابة والتابعين ; منهم علي كرم الله وجهه ، قال : " اغسلوا الأقدام إلى الكعبين " وروي عن أبي عبد الرحمن قال : " قرأ علي الحسن والحسين ، رضوان الله عليهما ، فقرآ : وأرجلكم إلى الكعبين فسمع علي ، عليه السلام ، ذلك ، وكان يقضي بين الناس ، فقال : وأرجلكم هذا من المقدم والمؤخر من الكلام . وتفسير هذا ما رواه عن السدي من قوله . أما وأرجلكم إلى الكعبين فيقول : اغسلوا وجوهكم واغسلوا أرجلكم وامسحوا برءوسكم ; فهذا من التقديم والتأخير .

                          ومنهم عمر وابنه ، رضي الله عنهما . وروي عن عطاء أنه قال : لم أر أحدا يمسح على القدمين . ومذهب مالك الغسل دون المسح ، فلو كان أحد منهم يمسح لما منع المسح ألبتة ، ولا يتفقون على الغسل إلا لأنه السنة المتبعة من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن ابن جرير روى القول بالمسح ، عن ابن عباس وأنس من الصحابة ، وعن بعض التابعين ، ومن الرواية . عن ابن عباس : " أن الوضوء غسلتان ومسحتان " وعن أنس : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل ، وهو من أعلم الصحابة بالسنة لأنه كان يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال ابن جرير بعد سوق الروايات في القولين ، ما نصه : " والصواب من القول عندنا في ذلك أن الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء ، كما أمر [ ص: 190 ] بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم ، وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ كان مستحقا اسم ماسح غاسل ; لأن غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء ، ومسحهما إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما ، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح ، وكذلك من احتمال المسح المعنيين اللذين وصفت من العموم والخصوص اللذين أحدهما مسح ببعض ، والآخر مسح بالجميع ، واختلفت قراءة القراء في قوله وأرجلكم فنصبها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل ، وإنكارا منه المسح عليهما مع تظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعموم مسحهما بالماء ، وخفضها بعضهم توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح ، ولما قلنا في تأويل ذلك : إنه معني به عموم مسح الرجلين بالماء كره من كره ، للمتوضئ الاجتزاء بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده ، أو بما قام مقام اليد ؛ توجيها منه قوله وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين إلى مسح جميعهما عاما باليد ، أو بما قام مقام اليد دون بعضهما مع غسلهما بالماء ، وههنا روي عن الحسن أن لمن يتوضأ في السفينة أن يغمس رجليه في الماء غمسا ، وفي رواية : يخفض قدميه في الماء ، ثم قال : فإذا كان في المسح المعنيان اللذان وصفنا من عموم الرجلين به بالماء ، وخصوص بعضهما به ، وكان صحيحا بالأدلة الدالة التي سنذكرها بعد ، أن مراد الله من مسحهما العموم ، وكان لعمومهما بذلك معنى الغسل والمسح ; فبين صواب قراءة القراءتين جميعا ، أعني النصب في الأرجل والخفض ; لأن في عموم الرجلين بمسحهما بالماء : غسلهما ، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما : مسحهما . فوجه صواب من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومهما بإمرار الماء عليهما ، ووجه صواب قراءة من قرأه خفضا لما في ذلك من إمرار اليد عليهما أو ما قام مقام اليد مسحا بهما ، غير أن ذلك وإن كان كذلك ، وكانت القراءتان كلتاهما حسنا صوابا ، فأعجب القراءتين إلي أن أقرأها قراءة من قرأ ذلك خفضا ; لما وصفت من جمع المسح المعنيين اللذين وصفت ، ولأنه بعد قوله وامسحوا برءوسكم فالعطف به على الرءوس مع قربه منه أولى من العطف به على الأيدي ، وقد حيل بينه وبينها بقوله : وامسحوا برءوسكم فإن قال قائل : وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين ، العموم دون أن يكون خصوصا ، نظير قولك في المسح بالرأس ؟ قيل : الدليل على ذلك تظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار " ولو كان مسح بعض القدم مجزيا عن عمومها بذلك لما كان لها الويل بترك ما ترك مسحه منها بالماء بعد أن يمسح بعضا ; لأن من أدى فرض الله عليه في ما لزمه غسله منها ، لم يستحق الويل ، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل ، فوجوب الويل لعقب تارك غسل عقبه في وضوئه أوضح الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء وصحة ما قلنا في ذلك ، وفساد ما خالفه . انتهى كلام ابن جرير ، ورأيه واضح ، وهو العمل بالقراءتين معا ، بأن يغسل المتوضئ رجليه ويمسحهما بيديه أو غير يديه في أثناء الغسل ; لأجل استيعاب غسلهما عناية بنظافتهما [ ص: 191 ] ; لأن الوسخ أكثر عروضا لهما من سائر الأعضاء ، فإذا لم يمسحه لا يؤثر الماء الذي يصب عليهما التأثير المطلوب لتنظيفهما ; إذ يغلب عليهما الجفاف والوسخ ، وبمسحهما في الغسل يستغني بقليل الماء عن كثيره في تنظيفهما ، والاقتصاد في الماء وغيره من السنة ، وكانوا في زمن التنزيل قليلي الماء في الحجاز ، وقد تنبه الزمخشري لهذا المعنى ، فقال في بيان حكمة قراءة الجر : " الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة ، تغسل بصب الماء عليها ، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطفت على الرابع الممسوح ، لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها ، وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ; لأن المسح لم تضرب له غاية في الشريعة . انتهى . والصواب : لتمسح حين تغسل .

                          وقد أطنب السيد الآلوسي في روح المعاني في توجيه كل من أهل السنة والشيعة للقراءتين ، وتحويل إحداهما إلى الأخرى ، ورجح قول أهل السنة ، ثم تكلم عن الرواية عن الشيعة فقال : " بقي لو قال قائل : لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ، ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة ; فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك ، عسى أن يكون فرسي رهان ، قيل له : " إن سنة خير الورى - صلى الله عليه وسلم - وآثار الأئمة ، رضي الله عنهم ، شاهدة على ما يدعيه أهل السنة ، وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى ، وأما من طريق القوم فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال : سألت أبا هريرة عن القدمين ، فقال : تغسلان غسلا " .

                          وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله ، رضي الله تعالى عنه ، قال : إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك ، وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي ، بأسانيد صحيحة ، بحيث لا يمكن تضعيفها ، ولا الحمل على التقية ; لأن المخاطب بذلك شيعي خاص .

                          وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين علي ، كرم الله تعالى وجهه ، أنه قال : جلست أتوضأ فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غسلت قدمي قال : يا علي خلل بين الأصابع . ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، في نهج البلاغة ، حكاية وضوئه - صلى الله عليه وسلم - وذكر فيه غسل الرجلين ، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة ، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له ، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس وأنس بن مالك وغيرهما ، رضي الله تعالى عنهم - كذب مفترى عليهم ، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح ، إلا أن ابن عباس ، رضي الله تعالى عنهما ، قال بطريق التعجب : لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ، ولكنهم أبوا إلا الغسل . ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته ، ولكن [ ص: 192 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل ، ففي كلامه هذا إشارة إلى أن قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة ، رضي الله تعالى عنهم ، ونسبة جواز المسح إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي زور وبهتان أيضا .

                          وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح ، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري ، عليه الرحمة ، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير ، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلقة ، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند ، واتسع الخرق على الراقع ، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمسترشد في الإمامة ، لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة ، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط ، لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه ، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي ، كرم الله تعالى وجهه ، أنه مسح وجهه ويديه ومسح رأسه ورجليه ، وشرب فضل طهوره قائما وقال : " إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز ، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع مثل ما صنعت . وهذا وضوء من لم يحدث ; لأن الكلام في وضوء المحدث ، لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف ، كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا .

                          وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه ، بروايات ضعيفة ، أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ ومسح على قدميه ، فهو كما قال الحفاظ : شاذ منكر ، لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا ، واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد . ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ، ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي ، عن فضالة ، عن حماد بن عثمان ، عن غالب بن هذيل ، قال : سألت أبا جعفر ، رضي الله تعالى عنه ، عن المسح على الرجلين ، فقال : هو الذي نزل به جبريل عليه السلام ، وما روي عن أحمد بن محمد قال : " سألت أبا الحسن موسى بن جعفر ، رضي الله تعالى عنه ، عن المسح على القدمين ، كيف هو ؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين ، فقلت له : لو أن رجلا قال بأصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين ، أيجزئ ؟ قال : لا إلا بكفه كلها . إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب ، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم ، وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا ( النفحات القدسية في رد الإمامية ) على أن لنا أن نقول : لو فرض أن حكم الله - تعالى - المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ، ولو كان هو الغسل لا يكفي المسح عنه ، فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح ، وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة ، وهذا مراد من عبر [ ص: 193 ] بأنه مسح وزيادة ، فلا يرد ما قيل من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد ; كالسواد والبياض ، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل ; لأنه الأنسب بالوجه المعقول من الوضوء ، وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب ، سبحانه وتعالى ; لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين ، كما سمعت ، دون المسح ; للاختلاف في سنده . وقال بعض المحققين : " قد يلزمهم بناء على قواعدهم ، أن يجوزوا الغسل والمسح ، ولا يقتصروا على المسح فقط " انتهى كلام الآلوسي .

                          أقول : إن في كلامه - عفا الله عنه - تحاملا على الشيعة وتكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنة كما تقدم ، والظاهر أنه لم يطلع على تفسير ابن جرير الطبري ، وقد نقلنا بعض رواياته ونص عباراته في الراجح عنده آنفا .

                          وصفوة القول في مسألة فرض الرجلين في الوضوء يتضح بأمور : ( 1 ) أن ظاهر قراءة النصب وجوب الغسل ، وظاهر قراءة الجر وجوب المسح .

                          ( 2 ) أن مجال النحو واسع لمن أراد رد كل قراءة منهما إلى الأخرى ، وربما كان رد النصب إلى الجر أوجه في فن الإعراب ، وكذلك مجال التجوز ; كقول أهل السنة : " إن المراد بمسح الرجلين غسلهما ; لأنه ورد إطلاق لفظ المسح على الوضوء " وهو تكلف ظاهر ، وأقوى الحجج اللفظية لأهل السنة على الإمامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين ، وهذا لا يحصل إلا باستيعابهما بالماء ; لأن الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل ، والإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك ، عند المفصل بين الساق والقدم ، ويقولون : إنه هو الكعب . ففي الرجل كعب واحد على رأيهم ، ولو صح هذا لقال إلى الكعاب ; كما قال في اليدين إلى المرافق ; لأن في كل يد مرفقا واحدا .

                          ( 3 ) أن القول بكل من الغسل والمسح مروي عن السلف من الصحابة والتابعين ، ولكن العمل بالغسل أعم وأكثر ، وهو الذي غلب واستمر ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيره ، إلا مسح الخفين .

                          ( 4 ) أن القول بعدم جواز الغسل أبعد عن النقل والعقل من القول بعدم جواز المسح ، وإن روي كل منهما ، أما النقل فلأنه ظاهر قراءة النصب ، ولصحة الروايات فيه ، وأما العقل فلأن الغسل هو الذي تحصل به الطهارة ، أي المبالغة في النظافة التي شرع الوضوء والغسل لأجلها ، كما هو منصوص في الآية نفسها ، ولأن المسح قد يدخل في الغسل دون العكس .

                          ( 5 ) إذا قيل : إن القراءتين متعارضتان ، والسنن متعارضة أيضا ، نقول : إن أهل السنة والشيعة متفقون على أنه إذا أمكن الجمع بين المتعارضين يقدم على ترجيح أحدهما على الآخر ، والجمع هنا ممكن بما قاله ابن جرير ، وهو المسح في أثناء الغسل ; لأن المسح هو إمرار ما يمسح به على ما يمسح وإلصاقه به ، وصب الماء لا يمنع منه ، بل يتحقق به ، والآية لم تقل : امسحوا أرجلكم بالماء [ ص: 194 ] ولا رءوسكم ، والأمر بمطلق المسح أمر بإمرار اليد بغير ماء ; كمسح رأس اليتيم ، ولكن لما قال : وامسحوا برءوسكم في سياق الوضوء علم بالقرينة وبباء الإلصاق ، أن ذلك يحصل ببل اليد بالماء ومسحها بالرأس ، ولما قال : وأرجلكم بالنصب والجر ، ولم يقل : وبأرجلكم ، كان الظاهر أن يغسل الرجلان ويمسحا في أثناء الغسل بإدارة اليد عليهما ، وإلا كان أمرا بإمرار اليد عليهما بغير الماء ، وهو غير معقول ولم يقل به أحد .

                          ( 6 ) إذا أمكن المراء فيما قاله ابن جرير ، فلا يمكن أن يماري أحد في الجمع بين المسح والغسل بالبدء بالأول على الوجه الذي يقول به موجبو المسح ، والتثنية بالغسل المعروف .

                          ( 7 ) لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة بالماء حكمة ، بل هو خلاف حكمة الوضوء ; لأن طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار ، أو وسخ يزيد وساخته وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة ، ولولا فتنة المذاهب بين المسلمين لما تشعب هذا الخلاف في هذه المسألة وأمثالها ; كالمسح على الخفين .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية