الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          المسح على الخفين وما في معناهما : ورد في المسح أحاديث كثيرة متفق على صحتها بين المحدثين ، قال النووي في شرح مسلم : " وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة " قال الحسن : " حدثني سبعون من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين " أخرجه ابن أبي شيبة . وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : " وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ، منهم العشرة " . ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك أنه ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف ; لأن كل من روي عنه منهم إنكاره ، فقد روي عنه إثباته " .

                          وأقوى الأحاديث حجة فيه ، حديث جرير ، فقد روى عنه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي : " أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال : نعم ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه " قال أبو داود : فقال جرير لما سئل : هل كان هذا قبل المائدة أو بعدها ؟ : " ما أسلمت إلا بعد المائدة " وفي الترمذي مثل هذا ، وقال الترمذي : " هذا حديث مفسر ; لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول مسح النبي [ ص: 195 ] - صلى الله عليه وسلم - على الخفين أنه كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة ; فيكون منسوخا " انتهى . ومثله حديث المغيرة ، وسيأتي .

                          وهذا التأول هو سبب إنكار بعض الصحابة للمسح بعد المائدة . وكأنه لما استفاض بينهم النقل عن مثل جرير والمغيرة رجعوا عن الإنكار ، وما روي في الإنكار عن علي وأبي هريرة وعائشة لا يصح ، بل صح المسح عن علي وأبي هريرة ، بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في نيل الأوطار : وأما القصة التي ساقها الأمير الحسين في الشفاء ، وفيها المراجعة الطويلة بين علي وعمر ، واستشهاد علي لاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح كان قبل المائدة فقال ابن بهران ، من علماء الشيعة الزيدية : " لم أر هذه القصة في شيء من كتب الحديث ، ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الإمام المهدي نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى علي ، عليه السلام " انتهى .

                          ونقول : هب أنها صحت ، أليس قصاراها إثبات المسح قبل المائدة ، ونفيه بعدها بطريق اللزوم أو النص ؟ أوليس من القواعد أن المثبت مقدم على النافي ؟ بلى ، والصواب أن النقل الثابت المتواتر عن الصحابة هو المسح ، وأن ما روي خلافه لا يعارضه ، وقد عرف أن سببه ، إما عدم رؤية المسح ، وإما ظن أنه قد نسخ ، ثم عرف جمهورهم أنه لم ينسخ ، وجرى على ذلك العمل .

                          وأما فقهاء المذاهب وعلماء الأمصار فقد اتفق أهل السنة منهم على جواز المسح .

                          قال الحافظ ابن عبد البر : " لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك ، مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته " انتهى .

                          وقال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد ، في المسألة الأولى من مسائل المسح : فأما الجواز ففيه ثلاثة أقوال : القول المشهور : أنه جائز على الإطلاق ، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار ، والقول الثاني : جوازه في السفر دون الحضر ، والقول الثالث : منع جوازه بإطلاق ، وهو أشذها ، والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول ، وعن مالك ، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الواردة في الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح ، مع تأخر آية الوضوء ، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول ; فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار ، وهو مذهب ابن عباس ، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم : " أنه كان يعجبهم حديث جرير ، وذلك أنه روى أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين ، فقيل له : إنما كان ذلك قبل نزول المائدة ، فقال : ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة " . وقال المتأخرون القائلون بجوازه : ليس بين الآية والآثار تعارض ; لأن الأمر بالغسل متوجه إلى من لا خف له ، والرخصة إنما هي للابس الخف ، وقيل : إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض ، هو المسح على الخفين . وأما من فرق بين السفر والحضر ، فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه ، صلى الله عليه وسلم [ ص: 196 ] ، إنما كانت في السفر ، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف ، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف ; فإن نزعه مما يشق على المسافر " انتهى كلام ابن رشد .

                          ويرد حجة المفرقين بين السفر والحضر ، الأحاديث الصحاح في التوقيت ، وسيأتي الكلام فيه وموافقة مسح الخفين لمسح العمامة ولحكمة التشريع ، ويؤيدها اشتراط لبس الخفين على طهارة ، وسيأتي .

                          ونقل في نيل الأوطار إثبات المسح في السنة ، وتواتره عن الصحابة ، واتفاق علماء السلف عليه ، إلا ما روي عن مالك من الخلاف في جوازه مطلقا ، أو للمسافر دون المقيم ، وعن ابن نافع في المبسوط ، أن مالكا إنما كان يتوقف في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز .

                          ثم قال : وذهبت العترة جميعا ، والإمامية والخوارج وأبو بكر بن داود الظاهري إلى أنه لا يجزئ المسح عن غسل الرجلين ، واستدلوا بآية المائدة ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن علمه : " واغسل رجلك " ولم يذكر المسح ، وقوله بعد غسلهما : " لا يقبل الله الصلاة بدونه " قالوا : والأخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة ، وأجيب عن ذلك .

                          ثم ذكر الأجوبة ، فقال ما نصه : أما الآية فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - المسح بعدها ، كما في حديث جرير المذكور في الباب ، وأما حديث : " واغسل رجلك " فغاية ما فيه الأمر بالغسل ، وليس فيه ما يشعر بالقصر ، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصا بأحاديث المسح المتواترة ، وأما حديث : " لا يقبل الله الصلاة بدونه " فلا ينتهض للاحتجاج به ، فكيف يصلح لمعارضة الأحاديث المتواترة ، مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به ، وأما حديث " ويل للأعقاب من النار " فهو وعيد لمن مسح رجليه ، ولم يغسلهما ، ولم يرد المسح على الخفين ، فإن قلت : هو عام فلا يقصر على السبب ، قلت : لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين ; فإنه يدع رجله كلها ولا يدع العقب فقط ، سلمنا . فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد . وأما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة أو مطلقة باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه ، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة فلا نسخ ، وقد تقرر في الأصول رجحان القول ببناء العام على الخاص مطلقا ، وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ فلا يتم له ذلك إلا بعد تصحيح تأخر الآية ، وعدم وقوع المسح بعدها ، وحديث جرير نص في موضع النزاع ، والقدح في جرير بأنه فارق عليا ممنوع ; فإنه لم يفارقه وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية لأعذار ، على أنه قد نقل الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير الإجماع على قبول رواية فاسق التأويل في عواصمه وقواصمه من عشر طرق ، ونقل الإجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها ، فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح ، بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الأمر ، مما لم يقل به أحد من العترة ، وأتباعهم ، وسائر علماء [ ص: 197 ] الإسلام ، وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع ، وحديث المغيرة الذي تقدم وسيأتي ، كان في غزوة تبوك ، وتبوك متأخرة بالاتفاق ، وقد صرح أبو داود في سننه بأن حديث المغيرة في غزوة تبوك ، وقد ذكر البزار أن حديث المغيرة هذا رواه عنه ستون رجلا .

                          " واعلم أن في المقام مانعا من دعوى النسخ ، لم يتنبه له أحد فيما علمت ، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق ، فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها فورودها بتقرير أحد الأمرين - أعني الغسل مع عدم التعرض للآخر ، وهو المسح - لا يوجب نسخ المسح على الخفين ، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية وأرجلكم مراد بها مسح الخفين ، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع ، نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول : إن الأمر بالنسخ نهي عن ضده ، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به ، لكن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف ، وكذلك كون المسح على الخفين ضد الغسل ، وما كان بهذه المثابة حقيق بألا يعول عليه ، لا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة " .

                          " والعقبة الكئود في هذه المسألة ، نسبة القول بعدم إجزاء المسح على الخفين إلى جميع العترة المطهرة ، كما فعله الإمام المهدي في البحر ، ولكنه يهون الخطب بأن إمامهم وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من القائلين بالمسح على الخفين ، وأيضا هو إجماع ظني ، وقد صرح جماعة من الأئمة ، منهم الإمام يحيى بن حمزة بأنها تجوز مخالفته . وأيضا فالحجة إجماع جميعهم ، وقد تفرقوا في البسيطة ، وسكنوا الأقاليم المتباعدة ، وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده ، فمعرفة إجماعهم في جانب التعذر ، وأيضا لا يخفى على المنصف ما ورد على إجماع الأمة من الإيرادات التي لا يكاد ينتهض معها للحجية ، بعد تسليم إمكانه ووقوعه ، وانتفاء حجية الأعم يستلزم حجية الأخص " انتهى .

                          أقول : أما حديث المغيرة بن شعبة الذي أشار - كما أشرنا - إليه ، وقال : إنه كان في غزوة تبوك وقال : إنه تقدم وسيأتي ، فهو كما جاء في باب جواز المعاونة على الوضوء من المتن ، وعزاه إلى الصحيحين : " أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، وأنه ذهب لحاجة له ، وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ ، فغسل وجهه ويديه ، ومسح برأسه ، ومسح على الخفين " قال في الشرح : الحديث اتفقا عليه بلفظ : " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال لي : يا مغيرة خذ الإداوة . فأخذتها ثم خرجت معه ، وانطلق حتى توارى عني حتى قضى حاجته ، ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين ، فذهب يخرج يده من كمها فضاق ، فأخرج يده من أسفلها ، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم مسح على خفيه . انتهى .

                          [ ص: 198 ] ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لبس الجبة الرومية في غزوة تبوك ، كما ثبت في الصحيح ، وهي بعد نزول المائدة وبعد فتح مكة ، ثم ذكر الحديث في باب شرعية المسح على الخفين من المتن ، وعزاه إلى أحمد وأبي داود ، وفيه زيادة " قلت : يا رسول الله ، أنسيت ؟ قال : بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي ، عز وجل " قال في الشرح : الحديث إسناده صحيح . انتهى . أقول : لعله مما يستدل به من قالوا : إن قراءة وأرجلكم بالجر مراد بها مسح الخفين ، وسيأتي حديث المغيرة بألفاظ أخرى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية