الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          نفي الحرج من الدين وإثبات اليسر ما نفاه الله تعالى من الحرج في هذه الآية قاعدة من قواعد الشريعة ، وأصل من أعظم أصول الدين ، تبنى عليه وتتفرع عنه مسائل كثيرة ، وقد أطلق هنا نفي الحرج ، والمراد به - أولا وبالذات - ما يتعلق بأحكام الآية ، أو بما تقدم من الأحكام من أول السورة . وثانيا - - وبالتبع - جميع أحكام الإسلام ، ولهذا لم يقل : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج فيما شرعه لكم من أحكام الطهارة ، مثلا ; لأن حذف المتعلق يؤذن بالعموم ، وقد صرح بنفي الحرج من الدين كله في سورة الحج ; فقال : ( وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ) ( 23 : 78 ) الآية ، وإنما صرح في هذه الآية بنفي الحرج من الدين كله ; لأن سورة الحج من السور المكية التي بينت أصول الإسلام ، وقواعده الكلية ، وهي تدل على أن القيام بما لا بد منه من عزائم الأمور ليس من الحرج في شيء ; لأنه نفى الحرج بعد الأمر بالجهاد في سبيل الله حق الجهاد ، وهو بذل الجهد في الطريق الموصل إلى إقامة سنن الله تعالى وحكمته في خلقه وكل ما يرضيه من عباده من الحق والخير والفضيلة . ولا يصعد الإنسان إلى مستوى كماله إلا ببذل الجهد في معالي الأمور ، وإنما الحرج هو الضيق والمشقة فيما ضرره أرجح أو أكبر من نفعه ; كالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ، والامتناع من سد الرمق بلحم الميتة أو الخنزير أو الخمر لمن لا يجد غيرها ، وكاستعمال المريض الماء في الوضوء أو الغسل مع خشية ضرره ، وكذلك استعماله في البرد بهذا القيد ، أو فيما يمكن إدراك غرض الشارع منه بدون مشقة في وقت آخر ; كالصيام في المرض والسفر ، وقد صرح القرآن الحكيم ، بعد بيان فرضية الصيام ، والرخصة للمريض والمسافر بالفطر ، بأنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر .

                          وقد بنى العلماء على أساس نفي الحرج والعسر ، وإثبات إرادة الله تعالى اليسر بالعباد في كل ما شرعه لهم - عدة قواعد وأصول ، فرعوا عليها كثيرا من الفروع في العبادات والمعاملات ، منها : " إذا ضاق الأمر اتسع " ، و " المشقة تجلب التيسير " ، و " درء المفاسد مقدم على جلب المنافع " ، و " الضرورات تبيح المحظورات " ، و " ما حرم لذاته يباح للضرورة " ، و " ما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة " .

                          وقد ناط الفقهاء معرفة المشقة التي تجلب التيسير ، وتكون سبب التخفيف بعرف الناس [ ص: 224 ] فيما لا نص فيه .

                          واستشكل القرافي هذا الضابط فيما يسكتون عن بيانه وتحديده من العرف ، وقال : إن الفقهاء من أهل العرف ، وليس وراءهم من أهله إلا العوام الذين لا يؤخذ بقولهم ولا رأيهم في الدين ( وعبارته : لا يصح تقليدهم في الدين ) ورأى إزالة الإشكال بأن ما لم يرد الشرع بتحديده يتعين تقريبه بقواعد الشرع ، وبين ذلك بقوله : يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق تلك العبادة المعينة ، فيحققه بنص أو إجماع أو استدلال ، ثم ما ورد عليه من المشاق ، مثل تلك المشقة أو أعلى منها ، جعله مسقطا ، وإن كان أدنى منها لم يجعله مسقطا ، مثاله : التأذي بالقمل في الحج مبيح للحلق بالحديث الوارد عن كعب بن عجرة ، فأي مرض آذى مثله أو أعلى منه أباح ، وإلا فلا . والسفر مبيح للفطر ; فيعتبر به غيره من المشاق ، انتهى . ووافقه عليه أبو القاسم بن الشاط الأنصاري .

                          وأقول : فيما استشكله من نوط ما لم يرد في الشرع بالعرف ، نظر ظاهر ; فإن العلماء الذين ناطوا بعض المسائل بالعرف إنما وقع ذلك منهم أفذاذا في أثناء البحث أو التصنيف ، ويجوز أن يجهل كل فرد منهم العرف العام في كثير من المسائل ، وما اجتمع علماء عصر أو قطر للبحث عن عرف الناس في أمر ومحاولة ضبطه وتحديده ثم عجزوا عن معرفته ، وأحالوا في ذلك على العامة . إن من العلماء الفقير البائس ، والضعيف المنة ( المنة ، بالضم : القوة والجلد ) والغني المترف والقوي الجلد ، وغير ذلك فيشق على بعضهم ما لا يشق على الجمهور ، ويسهل على بعضهم ما لا يسهل على الجمهور ; فالرجوع إلى العرف فيما يشق على الناس ، وما لا يشق عليهم ضروري لا بد منه ، وهو لا يعرف إلا بمعاشرة الناس وتعرف شئونهم وأحوالهم ، وقد كثرت الدواهي في آراء الفقهاء الاجتهادية الذين يجهلون أمر العامة ، ورحم الله من قال : " الفقيه هو المقبل على شأنه العارف بأهل زمانه " ، وما ذكره القرافي من التقريب محله ما لا نص فيه ولا عرف مما يقع للأفراد فيستفتون فيه ، وأما نوط كل ما لا نص فيه بآراء الفقهاء ، فهو الذي أوقع المسلمين في أشد الحرج والعسر من أمر دينهم ، حتى صاروا يتسللون منه لواذا ، ويفرون من حظيرته زرافات وأفذاذا ، واستبدل حكامهم بشرعه قوانين الأجانب ، وجعلوا لهم ولأنفسهم حق التشريع العام ، ونسخ ما شاءوا من الحدود والأحكام . وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى .

                          بعد ما بين تعالى هذه الأحكام وقاعدة رفع الحرج التي تم بها الإنعام ، ذكرنا بما إن ذكرناه نكن من الشاكرين له ، والموفين بعهده ، فقال : ( واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا ) أي تذكروا يا أيها المؤمنون ; إذ كنتم كفارا متباغضين متعادين ، فأصبحتم بنعمته عليكم بالهداية إلى الإسلام إخوانا في الإيمان والإحسان ، واذكروا ميثاقه الذي واثقكم به ; أي عهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ; إذ قلتم له سمعنا ما أمرتنا به ونهيتنا [ ص: 225 ] عنه ، وأطعناك فيه ، فلا نعصيك في معروف ، وكل ما جئتنا فهو معروف . أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد على الرجال والنساء بالسمع والطاعة ، فذكر الله تعالى عهد النساء في سورة الممتحنة ، ولم يذكر عهد الرجال ، وهو في معناه إلا أنه يتضمن معنى القتال لحماية الدعوة إلى الإسلام ، والدفاع عن أهلها ، وكل نبي بعث في قوم أخذ عليهم ميثاق الله تعالى بالسمع والطاعة كما ترى ، مثال ذلك في الآيات الآتية ، ومجرد قبول الدعوة والدخول في الدين يعد عهدا وميثاقا بالسمع والطاعة ، وعهد الله وميثاقه الذي أخذه نبينا صلى الله عليه وسلم على أول هذه الأمة عام يدخل فيه كل من قبل الإسلام ومن نشأ فيه من بعدهم إلى يوم القيامة ، فيجب أن نعد هذا التذكير خطابا لنا كما كان سلفنا الصالح من الصحابة ، رضي الله عنهم ، يعدونه خطابا لهم .

                          ( واتقوا الله ) أيها المؤمنون ، أن تنقضوا عهده بمخالفة ما أمركم به ونهاكم عنه في هذه الآيات أو غيرها أو أن تزيدوا فيما بلغكم رسولكم من أمر ربكم ، أو تنقضوا منه ، أو أن تقصروا في حفظه ، أو تحرفوا كلمه عن مواضعه ، فتكونوا كالذين أخذ الله ميثاقهم من أهل الكتاب ، فنسوا حظا مما ذكروا به ، وحرفوا الكلم عن مواضعه ، وزادوا في دينهم برأيهم ، ونقصوا منه ، كما ترون في هذه السورة ، وكذا في غيرها ، كثيرا من أخبارهم ، وما كان من غضب الله عليهم ، وعقابه لهم ( إن الله عليم بذات الصدور ) لا يخفى عليه ما أضمره كل واحد ممن أخذ عليهم الميثاق ، من الوفاء أو عدم الوفاء ، وما تنطوي عليه سريرة كل أحد من الإخلاص أو الرياء ، وسيرون ما يترتب على ذلك من الجزاء .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية