الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) روى غير واحد أن الآية نزلت في رجل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أرسله قومه لذلك ، وكان بيده السيف ، وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح ، وكان منفردا . وأقوى هذه الروايات ما صححه الحاكم من حديث جابر ، وهي أن الرجل [ ص: 229 ] من محارب ، واسمه غورث بن الحارث ( قال ) : قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال : الله . فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال : كن خير آخذ ، قال : ( تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ؟ ) قال : أعاهدك ألا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس . وفي غير هذه الرواية أن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علقه في شجرة وقت الراحة ، فأخذه الرجل ، وجعل يهزه ، ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فيكبته الله تعالى .

                          وروى آخرون أنها نزلت في قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع بني النضير ; إذ ذهب إليهم ومعه أبو بكر وعمر وعلي ، رضي الله عنهم ، يطلبون منهم الإعانة على دية قتل الرجلين الكلابيين ، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة ، وكان معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به ، وقومهما محاربون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد بني النضير على ألا يحاربوه ، وأن يعينوه على الديات ; فلما طلب منهم ذلك وهو بينهم أظهروا له القبول ، وقالوا اقعد حتى نجمع لك . وفي رواية : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا . فلما جلس بجانب جدار دار لهم وجدوا أن الفرصة قد سنحت للغدر به ، وقال لهم حيي بن أخطب : لا ترونه أقرب منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ، ولا ترون شرا أبدا ! فهموا أن يطرحوا عليه صخرة ، وفي رواية : رحى عظيمة ، وإنما اعتلوا بصنع الطعام ; ليكون لهم فيه وقت ينقلون الصخرة ، أو الرحى إلى سطح الدار ، ولا شك أنهم كانوا يريدون قتل من معه أيضا ، وقيل كان معهم عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف أيضا ، وقد أعلم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فانطلق وتركهم ، ونزلت الآية في ذلك ، وليس المراد أنها نزلت يومئذ ، وإنما المراد أنها نزلت مذكرة بهذه القصة ; فإن السورة نزلت عام حجة الوداع ، وذلك بعد غزوةبني النضير التي كانت في أوائل السنة الرابعة ، وقيل قبل ذلك . وعلى هذا يجوز أن تكون الآية مذكرة بهذه الحادثة وبحادثة المحاربي وأمثالهما من وقائع الاعتداء التي كانت كثيرة حتى بعد قوة الإسلام بكثرة المسلمين ، دع ما كان يقع في أول الإسلام من إيذاء المشركين وعدوانهم ; فهو سبحانه يذكر المسلمين بذلك كله ، والمنة له جل جلاله في ذلك ليست قاصرة على من وقعت لهم تلك الوقائع من النبي ، صلى الله عليه ، والمؤمنين ، [ ص: 230 ] بل هي منة عامة ، يجب أن يشكرها له ، عز وجل ، كل مؤمن إلى يوم القيامة ; لأن حفظه لأولئك السلف الصالحين هو عين حفظه لهذا الدين القويم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه بالقبول ، وأدوها لمن بعدهم بالقول والعمل .

                          ومن فوائد هذا التذكير للمتأخرين ترغيبهم في التأسي بسلفهم في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر والإحسان واحتمال الجهد والصبر على المشاق في هذه السبيل ، وهي سبيل الله ، وهذا هو المعنى العام للجهاد في سبيل الله .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية