الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( بحث في عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا ) الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة ، وترد بمعان مختلفة كما بيناه في تفسير ( والكافرون هم الظالمون 2 : 254 ) من سورة البقرة . وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة ، وما ينافي دين الله الحق ، دون لفظي الظلم والفسق ، ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم ، ولكنهم يقولون : " كفر دون كفر " ، ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم ، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم ، بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا ; لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن .

                          وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوالا ، منها قوله : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، ومنها أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ، ليس في أهل الإسلام منها شيء ، وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى ، وهذا هو الظاهر ، ولكنه لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم ، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم ، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله . وقد ذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان ، فقال رجل : إن هذا في بني إسرائيل . قال حذيفة : نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ; أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك ( أي سير النعل ) عزاه في الدر المنثور إلى عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه .

                          ( قال ) : وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : نعم القوم أنتم ; إن كان ما كان من حلو فهو لكم ، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب ، كأنه يرى أن ذلك في المسلمين . وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى : " ومن لم يحكم . . . ومن لم يحكم . . . ومن لم يحكم " ، قال : فقلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا ، قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال : لا بل نزلت علينا ، ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة ، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا ، قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا ، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم . ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته ، وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد ومقسم ، قال : [ ص: 334 ] قال : صدق ، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك ، فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال ، فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ؟ قال : لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى مقسم " ، والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره - وهو المراد - لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين ، بل بمعنى أكبر المعاصي .

                          وأقول : إن قول من قال : إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على بني إسرائيل . يراد به أنها نزلت في شأنهم ، لا أنها في كتابهم ; إذ لا شيء يدل على أنها محكية ، وإلا فهو خطأ ، والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود ، والثالثة في سياق الكلام على النصارى ، لا يجوز فيها غير ذلك ، وعبارتها عامة ، لا دليل فيها على الخصوصية ، ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى ، وكذا الأخريان ، إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له ، وتفضيل غيره عليه ، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا للمعنى .

                          وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل ، تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى ، وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسوق في الثالثة ، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء . ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به ، والوصية بحفظه . وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، رغبة عن هدايته ونوره ، مؤثرا لغيره عليه ، فهو الكافر به ، وهذا واضح ، لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به ، أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله ، وهذا هو العاصي بترك الحكم ، الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره ، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل .

                          وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة ، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه ، كما هو ظاهر .

                          وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل ، وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته ، لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط ، فمن لم يحكم بهذه الهداية ، ممن خوطبوا بها ، فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة .

                          وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم ، وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم ، فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه [ ص: 335 ] من الأحكام ، من غير تأويل يعتقدون صحته ، فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث ، أو في بعضها ، كل بحسب حاله ، فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له ; لاستقباحه إياه ، وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه ، فهو كافر قطعا ، ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم ، إن كان في ذلك إضاعة الحق ، أو ترك العدل والمساواة فيه ، وإلا فهو فاسق فقط ; إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ، ولا عكس ، وحكم الله العام - المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل ، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله كما قال أحد الأعلام .

                          ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضرورات . وقد كان مولوي نور الدين مفتي بنجاب من الهند ، سأل شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى عن أسئلة ، منها مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية ، فحولها إلي الأستاذ لأجيب عنها ، كما كان يفعل في أمثالها أحيانا ، وهذا نص جوابي عن مسألة الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند ، وهو الفتوى الـ 77 من فتاوى المجلد السابع من المنار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية