الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          وصف الله هؤلاء الكملة من المؤمنين بست صفات : ( الصفة الأولى ) : أنه تعالى يحبهم ; فالحب من الصفات التي أسندت إلى الله تعالى في كتابه ، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ; فهو تعالى يحب ويبغض كما يليق بشأنه ، ولا يشبه حبه حب البشر ; لأنه لا يشبه البشر ( ليس كمثله شيء ) ( 42 : 11 ) وكذلك علمه لا يشبه علم البشر ، ولا قدرته تشبه قدرتهم ، ولا نتأول حبه بالإثابة وحسن الجزاء ، كما تأولته المعتزلة وكثير من الأشاعرة فرارا من التشبيه إلى التنزيه ; إذ لا تنافي بين إثبات الصفات وتنزيه الذات ، وإلا لاحتجنا إلى تأويل العلم والقدرة والإرادة ، وهم لا يتأولونها ، ولا يخرجون معانيها عن ظواهر ألفاظها ; فمحبته تعالى لمستحقيها من عباده شأن من شئونه اللائقة به ، لا نبحث عن كنهها وكيفيتها ، وحسن الجزاء من المغفرة والإثابة قد يكون من آثارها ، قال تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) ( 3 : 31 ) فجعل اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم سببا لمحبة الله تعالى للمتبعين وللمغفرة . فكل من المحبة والمغفرة جزاء مستقل ; إذ العطف يقتضي المغايرة .

                          ( الصفة الثانية ) : أنهم يحبون الله تعالى ، وحب المؤمنين الصادقين لله تعالى ثبت في آيات غير هذه من كتاب الله تعالى كقوله : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ) ( 2 : 165 ) وقوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ) ( 9 : 24 ) .

                          وفي حديث أنس المرفوع في الصحيحين " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار " وحديثه الآخر في الصحيحين أيضا " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ، إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : المرء مع من أحب ، قال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك " .

                          وقد تأول هذا الحب بعض الناس أيضا ; قالوا : إن المراد به المواظبة على الطاعة ; إذ يستحيل أن يحب الإنسان إلا ما يجانسه ، ويرد هذا قوله تعالى : ( أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله 6 364 ) [ ص: 364 ] فإنه جعل الجهاد غير الحب ، وحديث الأعرابي المذكور آنفا ، فإنه فرق بين الحب والعمل ، وجعل عدته للساعة الحب دون كثرة العمل الصالح . نعم ، إن الحب يستلزم الطاعة ويقتضيها بسنة الفطرة ، كما قيل : تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمرك في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع وقد أطال أبو حامد الغزالي في كتاب المحبة من " الإحياء " في بيان محبة الله لعباده ومحبة عباده له ، والرد على المنكرين المحرومين ، فجاء بما يطمئن به القلب ، وتسكن له النفس ، وينثلج به الصدر . وللمحقق ابن القيم كلام في ذلك هو أدق تحريرا ، وأشد على الكتاب والسنة انطباقا ، ولسيرة سلف الأمة موافقة . ولولا أن هذا الجزء من التفسير قد طال جدا لحررت هذا الموضوع هنا ، وأتيت بخلاصة أقوال النفاة المعترضين ، وصفوة أقوال المثبتين ، ولكننا نرجئ هذا إلى تفسير آية أخرى كآية التوبة ( 9 : 24 ) وقد بينا معنى حب الله من قبل في تفسير ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) ( 2 : 165 ) فحسبك الرجوع إليه الآن ( راجع ص55 وما بعدها ج2 ط الهيئة ) .

                          ( الصفتان الثالثة والرابعة ) : الذلة على المؤمنين والعزة على الكافرين ، والمروي في تفسيرهما أنهما بمعنى قوله تعالى : ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) ( 48 : 29 ) وقال الزمخشري : " أذلة " جمع ذليل ، وأما " ذلول " فجمعه ذلل ككتب ) ووجه قوله : ( أذلة على المؤمنين ) دون " أذلة للمؤمنين " بوجهين : أحدهما أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف ; كأنه قال : عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع ، والثاني أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم ، وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم .

                          ( الصفة الخامسة ) : الجهاد في سبيل الله ، وهو من أخص صفات المؤمنين الصادقين ، وأصل الجهاد احتمال الجهد والمشقة ، وسبيل الله طريق الحق والخير الموصلة إلى مرضاة الله تعالى ، وأعظم الجهاد بذل النفس والمال في قتال أعداء الحق ، وهو أكبر آيات المؤمنين الصادقين ، وأما المنافقون فقد قال الله تعالى فيهم : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ) ( 9 : 47 ) وضعاف الإيمان قد يجاهدون ، ولكن في سبيل منفعتهم ، دون سبيل الله ، فإن رأوا ظفرا وغنيمة ثبتوا ، وإن رأوا شدة وخسارة انهزموا ، وهل المراد بهذا الجهاد هنا قتال المرتدين ، أم هو على إطلاقه ؟ الظاهر الثاني ، ولكنه يتناول مقاتلي المرتدين في الصدر الأول ، أولا وبالأولى .

                          ( الصفة السادسة ) : كونهم لا يخافون لومة لائم ، وجملة هذا الوصف معطوفة على التي قبلها أو مبينة لحال المجاهدين ، وفيها تعريض بالمنافقين الذين كانوا يخافون لوم أوليائهم من [ ص: 365 ] اليهود لهم إذا هم قاتلوا مع المؤمنين ، والأبلغ أن تكون للوصف المطلق ; أي إنهم لتمكنهم في الدين ، ورسوخهم في الإيمان لا يخافون لومة ما من أفراد اللوم أو أنواعه من لائم ما كائنا من كان ; لأنهم لا يعملون العمل رغبة في جزاء أو ثناء من الناس ، ولا خوفا من مكروه يصيبهم منهم ; فيخافون لوم هذا أو ذاك ، وإنما يعملون العمل لإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، وتقرير المعروف ، وإزالة المنكر ; ابتغاء مرضاة الله تعالى بتزكية أنفسهم وترقيتها .

                          ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) أي ذلك الذي ذكر من الصفات الست فضل الله يعطيه من يشاء من عباده ، فيفضلون غيرهم به ، وبما يترتب عليه من الأعمال ، وقد بينا مرارا أن مشيئته ، سبحانه ، لمثل هذا الفضل ، تجري بحسب سنته التي أقام بها أمر النظام في خلقه ، فمنهم الكسب والعمل النفسي والبدني ، ومنه سبحانه آلات الكسب والقوى البدنية والعقلية ، والتوفيق والهداية الخاصة ، واللطف والمعونة ( والله سميع عليم ) فلا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن فضله ومنته ، وما يقتضيه من شكره وعبادته .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية