الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ثم رد تعالى عليهم بقوله : ( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) أي بل هو صاحب الجود الكامل ، والعطاء الشامل ، عبر عن ذلك ببسط اليدين ; لأن الجواد السخي إذا أراد أن يبالغ في العطاء جهد استطاعته يعطي بكلتا يديه ، وصفوه بغاية البخل والإمساك ، فأبطل قولهم ، وأثبت لنفسه غاية الجود وسعة العطاء . ولا غرو ، فكل ما يتقلب فيه العالم كله من الخير والنعيم هو سجل من ذلك الجود والكرم . والنكتة في قوله : " كيف يشاء " بيان أن تقتير الرزاق على بعض العباد ، الجاري على وفق الحكمة وسنن الله تعالى في الاجتماع لا ينافي سعة الجود وسريانه في كل الوجود ، فإن له سبحانه الإرادة والمشيئة في تفضيل بعض الناس على بعض في الرزق ، بحسب السنن التي أقام بها نظام الخلق .

                          والعجب من الإمام الجليل أبي جعفر بن جرير الطبري : كيف صور استعمال لفظ اليد هنا أحسن تصوير ، ثم خفيت عنه نكتة تثنيته ; فجعلها حجة المفوضة على أهل التأويل ، ونحن معه في إثبات الصفات ، ننعى على المؤولين النفاة ، ولا يمنعنا ذلك أن نفهم نكتة تثنية اليد من استعمال لفظها المفرد . قال ابن جرير بعد تفسير غل اليد بالإمساك وحبس العطاء عن الاتساع ما نصه : وإنما وصف - تعالى ذكره - اليد بذلك ، والمعنى العطاء ; لأن عطاء الناس وبذل معروفهم الغالب بأيديهم ، فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضا إذا وصفوه بجود وكرم ، أو ببخل وشح وضيق ، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه ، كما قال الأعشى في مدح رجل :

                          يداك يدا جود فكف مقيدة وكف إذا ما ضن بالزاد تنفق

                          فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى اليد ، ومثل ذلك في كلام العرب في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يحصى ، فخاطبهم الله بما يتعارفونه أو يتحاورونه بينهم في كلامهم ، انتهى .

                          ثم لما ذكر قول من قال من أهل الجدل أن يد الله نعمته أو قدرته أو ملكه ، وقول من قال : إن يد الله صفة من صفاته ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح [ ص: 378 ] بني آدم ، رد القول الأول ، ورجح الثاني بتثنية اليد وعدم إفرادها ، وإبطال قول من قال : إن التثنية بمعنى الجمع .

                          نعم ، إن التثنية بمعنى الجمع ( واليد واليدين ) لم يقصد بلفظهما النعمة ولا القوة ولا الملك ؛ وإنما الاستعمال في الموضعين من الكناية ، ونكتة التثنية إفادة سعة العطاء ومنتهى الجود والكرم ، وليس في هذا القول المروي عن ابن عباس تأويل ولا نفي لما أثبته البارئ لنفسه من صفة اليد واليدين والأيدي في آيات أخرى ، وما سبب ذهول ابن جرير عن نكتة التثنية إلا توجهه إلى الرد على أهل الجدل في المذهب الذي كانوا قد انتحلوه في تأويل الصفات ، ومتى وجه الإنسان همه إلى شيء يكون له منه حجاب ما عن غيره ، وتقرير الحقيقة لذاتها غير الرد على من يعدون من خصومها ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ( 33 : 4 ) ولهذا غلط كثير من أنصار مذهب السلف في مسائل خالفوا فيها المذهب من حيث يريدون تأييده ، وهذه آفة من آفات عصبية المذاهب ، لا تنفك عنها .

                          ( وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ; أي إن هذا الذي أنزلناه عليك من خفي أمور هؤلاء اليهود المعاصرين لك ومن أحوال سلفهم وشئون كتبهم وحقائق تاريخهم هو من أعظم الحجج والآيات على نبوتك ، فكان ينبغي أن يجذبهم إلى الإيمان بك ; لأنك لولا النبوة والوحي لما علمت من ذلك شيئا ; لا من ماضيه ; لأنك أمي لم تقرأ الكتب ، وما كل من قرأها يعلم كل ما جئت به عنهم ، ولا من حاضره ; لأنه من خفايا مكرهم وأسرار كيدهم ، ولكنهم لتجاوزهم الحدود في الكفر والحسد للعرب ، والعصبية الجنسية لأنفسهم ، لا يجذبهم ذلك إلى الإيمان ، ولا يقربهم منه إلا قليلا منهم ، ووالله ليزيدن كثيرا منهم طغيانا في بغضك وعداوتك ، وكفرا بما جئت به ، قال قتادة : حملهم حسد محمد صلى الله عليه وسلم والعرب على أن كفروا به ، وفي رواية : على أن تركوا القرآن ، وكفروا بمحمد ودينه ، وهم يجدونه مكتوبا عندهم . فعلم مما شرحناه أن زيادة طغيان الكثيرين منهم وكفرهم جاء على خلاف الظاهر وضد ما يقتضيه الدليل ; فلهذا أكده بالقسم الذي تفيده اللام في قوله : ( وليزيدن ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية