الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) بين حظ الشيطان من الناس في الخمر والميسر دون ما قرن بهما في الآية الأولى من الأنصاب والأزلام ، لأن بيان تحريمهما هو المقصود بالذات ، وقد تقدم في أول السورة ( أي في الآية الثالثة منها ) تحريم ما ذبح على النصب والاستقسام بالأزلام وكون ذلك فسقا ، وكان المؤمنون قد تركوهما; لأنهما من أعمال الجاهلية وخرافات الوثنية ، والخطاب هنا للمؤمنين الذين طهرهم التوحيد من خرافات الشرك كلها ، ولذلك قال عمر عند نزول الآية : " أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام ؟ بعدا لك وسحقا ، فعلم من ذلك أن ذكر الأنصاب والأزلام وهما من الخرافات الاعتقادية ولزمهما مع الخمر والميسر وهما من الرذائل المالية والاجتماعية قد أريد به أن كل ذلك من رجس الجاهلية ، وأنه لا يليق شيء منه بأهل الحنيفية .

                          والعداوة ضرب من التجاوز الذي هو أصل معنى مادة ( عدا يعدو ) وهو تجاوز الحق إلى الإيذاء ، قال في لسان العرب : والعادي الظالم ، يقال : لا أشمت الله بك عاديك ، أي عدوك الظالم لك ، قال أبو بكر : قول العرب فلان عدو فلان : معناه فلان يعدو على فلان بالمكروه ويظلمه اهـ . وقالوا أيضا : العدو ضد الصديق وضد الولي أي الموالي ، فعلم من ذلك أن العداوة سيئة عملية ، والبغضاء انفعال في القلب وأثر في النفس فهو ضد المحبة ، فالعداوة والبغضاء يجتمعان ويوجد أحدهما دون الآخر .

                          أما كون الخمر سببا لوقوع العداوة والبغضاء بين الناس ، حتى الأصدقاء منهم فمعروف وشواهده كثيرة ، وعلته أن شارب الخمر يسكر فيفقد العقل الذي يعقل الإنسان أي يمنعه من الأقوال والأعمال القبيحة التي تسوء الناس ويستولي عليه حب الفخر الكاذب ، ويسرع إليه الغضب بالباطل ، وقد جرت عادة محبي الخمر على الاجتماع للشرب ، فقلما تكون رذائلهم قاصرة عليهم ، غير متعدية إلى غيرهم ، وكثيرا ما تتعدى إلى غير من يشرب [ ص: 51 ] معهم كالأهل والجيران ، والخلطاء والعشراء ، وقد تقدم في أسباب نزول الآيات بعض الشواهد على ذلك ، ومن أغرب أخبار شذوذ السكر الذي يفضي مثله عادة إلى العداوة والبغضاء والهرج والقتال ، حديث علي كرم الله وجهه مع عمه حمزة ( رضي الله عنهما ) وملخصه " أنه كان له شارفان ( ناقتان مسنتان ) أراد أن يجمع عليهما الإذخر ( نبات طيب الرائحة ) مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة عليها السلام عند إرادة البناء بها ، وكان عمه حمزة يشرب الخمر مع بعض الأنصار ومعه قينة تغنيه فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين وأخذ أطايبهما ليأكل منها الشرب ، فثار حمزة وجب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما ، فلما رأى علي ذلك تألم ، ولم يملك عينيه وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل النبي على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة فتغيظ عليه وطفق يلومه ، وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل نكص على عقبيه القهقرى وخرج هو ومن معه " والحديث في الصحيحين ، ولولا حلم الرسول وعصمته وعقله وأدب علي وفضله ، وبلاء حمزة في إقامة الإسلام وقربه لما وقفت هذه الحادثة عند الحد الذي وقفت عنده .

                          وإن حوادث العداوة والبغضاء التي يثيرها السكر وما ينشأ عنها من القتل والضرب والعدوان والسلب ، والفسق والفحش ، ومن إفشاء الأسرار ، وهتك الأستار ، وخيانة الحكومات والأوطان ، قد سارت بأخبارها الركبان ، وما زالت حديث الناس في كل زمان ومكان .

                          وأما الميسر فهو مثار للعداوة والبغضاء أيضا ولكن بين المتقامرين ، فإن تعداهم فإلى الشامتين والعائبين ، ومن تضيع عليهم حقوقهم من الدائنين وغير الدائنين ، وإن المقامر ليفرط في حقوق الوالدين والزوج والولد ، حتى يوشك أن يمقته كل أحد .

                          قال الفخر الرازي : وأما الميسر ففيه بإزاء التوسعة على المحتاجين الإجحاف بأرباب الأموال ، لأن من صار مغلوبا في القمار مرة دعاه ذلك إلى اللجاج فيه عن رجاء أنه ربما صار غالبا فيه ، وقد يتفق ألا يحصل له ذلك إلى ألا يبقى له شيء من المال ، وإلى أن يقامر على لحيته وأهله وولده ! ! ولا شك أنه بعد ذلك يصير فقيرا مسكينا ويصير من أعدى الأعداء لأولئك الذين كانوا غالبين له ، اهـ .

                          وأما كون كل من الخمر والميسر يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهو مفسدتها الدينية فهو أظهر من كونهما مثارا للعداوة والبغضاء وهو مفسدتها الاجتماعية لأن كل سكرة من سكرات الخمر ، وكل مرة من لعب القمار ، تصد السكران واللاعب وتصرفه [ ص: 52 ] عن ذكر الله الذي هو روح الدين ، وعن الصلاة التي هي عماد الدين ، إذ السكران لا عقل له يذكر به آلاء الله وآياته ، ويثني عليه بأسمائه وصفاته ، أو يقيم به الصلاة التي هي ذكر الله ، وزيادة أعمال تؤدي بنظام لغرض وقصد ، ولو ذكر السكران ربه ، وحاول الصلاة لم تصح له ، والمقامر تتوجه جميع قواه العقلية إلى اللعب الذي يرجو منه الربح ويخشى الخسارة فلا يبقى له من نفسه بقية يذكر الله تعالى بها ، أو يتذكر أوقات الصلاة وما يجب عليه من المحافظة عليها ، ولعله لا يوجد عمل من الأعمال يشغل القلب ويصرفه عن كل ما سواه ويحصر همه فيه مثل هذا القمار ، حتى إن المقامر ليقع الحريق في داره وتنزل المصائب بأهله وولده ، ويستصرخ ويستغاث فلا يصرخ ولا يغيث ، بل يمضي في لعبه ، ويكل أمر الحريق إلى جند الإطفاء ، وأمر المصابين من الأهل إلى المواسين أو الأطباء ، وما زال الناس يتناقلون النوادر في ذلك عن المقامرين ، من الأولين والمعاصرين .

                          على أن المقامر إذا تذكر الصلاة أو ذكره غيره بها ، وترك اللعب لأجل أدائها ، فإنه لا يكاد يؤدي منها إلا الحركات البدنية بدون أدنى تدبر أو خشوع ، ولا سيما إذا كان يريد أن يعود إلى اللعب ، نعم إنه قد يأتي بأفعال الصلاة تامة فيفضل السكران بهذا إذ لا يكاد يأتي منه ضبط أفعالها ، ولكن السكران قد يفضله بأعمال القلب والخشوع ولو بغير عقل ، فكم من سكران يذكر الله تعالى ويذكر ذنوبه حتى سكره ويبكي ، ويدعو الله تعالى أن يتوب عليه ، لقيت مرة سكرانا في أحد شوارع القاهرة فأقبل علي يقبل يدي ويبكي ويقول : ادع الله لي أن يتوب علي من السكر ويغفر لي ، أنت ابن الرسول ، ودعاؤك مقبول ، وأمثال هذا الكلام ، وإذا كان الله تعالى لا يقبل صلاة السكران لأنه لا يعقل ما يقول وما يفعل ، فهو بالأولى لا يقبل صلاة المقامر الذي يقف بين يديه ، وقلبه مشغول عنه بما حرمه عليه ، فلا يتدبر القرآن ، ولا يخشع للرحمن ، وهو عاقل مكلف قادر على مجاهدة نفسه ، وتوجيهها إلى مراقبة ربه ولا يفيد مثل هذا المصلي الساهي عن صلاته إفتاء الفقهاء بصحتها ، إذا كملت شروطها وفروضها ، فما كل صحيح عند علماء الرسوم بمقبول ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ) ( 107 : 4 ، 5 ) .

                          قد يقال : إن الله تعالى قد بين بهذه الآية علتين لتحريم الخمر والميسر إحداهما اجتماعية والأخرى دينية تصدق على الألعاب التي اشتد ولوع كثير من الناس بها; كالشطرنج فالظاهر أن تعد بذلك محرمة كالميسر; لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وإن كان اللعب بها على غير مال ؟ قال السيد الآلوسي في هذا المقام من تفسيره ( روح المعاني ) : وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج الحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى [ ص: 53 ] وما ينفر منه الفيل ، وتكبو له الفرس ويصحو من همومه الرخ بل يتساقط ريشه ، ويحار لشناعته بيذق الفهم ، ويضطرب فرزين العقل ، ويموت شاه القلب ، وتسود رقعة الأعمال ، اهـ .

                          وأقول : إن اللعب بالشطرنج إذا كان على مال دخل في عموم الميسر وكان محرما بالنص كما تقدم ، وإذا لم يكن كذلك فلا وجه للقول بتحريمه قياسا على الخمر والميسر إلا إذا تحقق فيه كونه رجسا من عمل الشيطان ، موقعا في العداوة والبغضاء ، صادا عن ذكر الله وعن الصلاة ، بأن كان هذا شأن من يلعب به دائما أو في الغالب ، ولا سبيل إلى إثبات هذا وإننا نعرف من لاعبي الشطرنج من يحافظون على صلواتهم وينزهون أنفسهم عن اللجاج والحلف الباطل ، وأما الغفلة عن الله تعالى فليست من لوازم الشطرنج وحده ، بل كل لعب وكل عمل فهو يشغل صاحبه في أثنائه عن الذكر والفكر فيما عداه إلا قليلا ، ومن ذلك ما هو مباح وما هو مستحب أو واجب ، كلعب الخيل والسلاح والأعمال الصناعية التي تعد من فروض الكفايات ، ومما ورد النص فيه اللعب; لعب الحبشة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بحضرته ، وإنما عيب الشطرنج من أنه أشد الألعاب إغراء بإضاعة الوقت الطويل ، ولعل الشافعي كرهه لأجل هذا ، ونحمد الله الذي عافانا من اللعب به وبغيره ، كما نحمده حمدا كثيرا أن عافانا من الجرأة على التحريم والتحليل ، بغير حجة ولا دليل .

                          ولما بين جل جلاله علة تحريم الخمر والميسر وحكمته أكده بقوله : ( فهل أنتم منتهون ) فهذا استفهام يتضمن الأمر بالانتهاء ، قال الكشاف : من أبلغ ما ينهى به ، كأنه قيل قبل قد تلي عليكم من أنواع الصوارف والموانع ، فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا ؟ .

                          قال هذا بعد بيان ما أكد الله تحريم الخمر والميسر في هاتين الآيتين من سبعة وجوه وتبعه في ذلك الرازي وغيره ، ونحن نبين المؤكدات بأوضح مما بينوها به وأوسع فنقول :

                          ( أحدها ) أن الله تعالى جعل الخمر والميسر رجسا ، وكلمة الرجس تدل على منتهى القبح والخبث ، ولذلك أطلقت على الأوثان كما تقدم ، فهي أسوأ مفهوما من كلمة الخبيث وقد علم من عدة آيات أن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " الخمر أم الخبائث " رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عمر وقال : " الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر " ومن شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته " رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمر وكذا من حديث ابن عباس بلفظ " من شربها وقع على أمه " إلخ ، وليس فيه ترك الصلاة ، وقد علم السيوطي على هذه الأحاديث في جامعه بالصحة . [ ص: 54 ] ( ثانيها ) أنه صدر الجملة : بـ ( إنما ) الدالة على الحصر للمبالغة في ذمها ، كأنه قال : ليست الخمر والميسر إلا رجسا فلا خير فيها البتة .

                          ( ثالثها ) أنه قرنها بالأنصاب والأزلام التي هي من أعمال الوثنية وخرافات الشرك وقد أورد المفسرون هنا حديث " مدمن الخمر كعابد وثن " رواه ابن ماجه عن أبي هريرة في سنده محمد بن سليمان الأصبهاني صدوق يخطئ ، ضعفه النسائي .

                          ( رابعها ) أنه جعلهما من عمل الشيطان ، لما ينشأ عنهما من الشرور والطغيان وهل يكون عمل الشيطان إلا موجبا لسخط الرحمن .

                          ( خامسها ) أنه جعل الأمر بتركهما من مادة الاجتناب وهو أبلغ من الترك ، لأنه يفيد الأمر بالترك مع البعد عن المتروك بأن يكون التارك في جانب بعيد عن جانب المتروك كما تقدم ، ولذلك نرى القرآن لم يعبر بالاجتناب إلا عن ترك الشرك والطاغوت الذي يشمل الشرك والأوثان وسائر مصادر الطغيان ، وترك الكبائر عامة ، وقول الزور الذي هو من أكبرها ، قال تعالى : ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ) ( 22 : 30 ) وقال : ( واجتنبوا الطاغوت ) ( 16 : 36 ) كما قال : ( والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ) ( 39 : 17 ) وقال : ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) ( 53 : 32 ) .

                          ( سادسها ) أنه جعل اجتنابهما معدا للفلاح ، ومرجاة له ، فدل ذلك على أن ارتكابهما من الخسران والخيبة ، في الدنيا والآخرة . ( سابعها ) أنه جعلهما مثارا للعداوة والبغضاء ، وهما شر المفاسد الدنيوية المتعدية إلى أنواع من المعاصي في الأموال والأعراض والأنفس ، ولذلك سميت الخمر أم الخبائث وأم الفواحش ، وقد قيل إن امرأة فاسقة راودت رجلا صالحا عن نفسه فاستعصم فسقته الخمر فزنى بها ، وأغرته بالقتل فقتل ، حكوا هذه عن بعض الأمم الغابرة ، ومثله كثير في هذا الزمان ، وقد قال بعض الفساق في مصر : إنه لولا السكر لقل أن يوجد في الناس من يقرب من هؤلاء البغايا العموميات ، وقد علم مما تقدم أن هاتين مفسدتان منفصلتان ، لأن العداوة غير البغضاء فيجتمعان ويفترقان .

                          ( تاسعها وعاشرها ) أنه جعلهما صادين عن ذكر الله وعن الصلاة وهما روح الدين وعماده ، وزاد المؤمن وعتاده ، وقد علم مما تقدم أيضا أن الصد عن ذكر الله غير الصد عن الصلاة .

                          ( حادي عشرها ) الأمر بالانتهاء عنها بصيغة الاستفهام المقرون بفاء السببية ، وهل [ ص: 55 ] يصح الفصل بين السبب والمسبب ؟ وفي الآية الثانية ثلاث مؤكدات أخرى نوردها معدودة مع ما قبلها :

                          ( ثاني عشرها ) قوله عز وجل : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) أي أطيعوا الله تعالى فيما أمركم به من اجتناب الخمر والميسر وغيرهما ، كما تجتنبون الأنصاب والأزلام أو أشد اجتنابا في كل شيء ، أطيعوا الرسول فيما بينه لكم مما نزله الله عليكم ، ومنه قوله : " كل مسكر خمر وكل خمر حرام " وقد تقدم قريبا .

                          ( ثالث عشرها ) قوله عز وجل : ( واحذروا ) أي احذروا عصيانهما أو ما يصيبكم إذا خالفتم أمرهما من فتنة الدنيا وعذاب الآخرة ، فإنه حرام عليكم إلا ما يضركم في دنياكم وآخرتكم ، قال تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( 24 : 63 ) .

                          ( رابع عشرها ) الإنذار والتهديد في قوله : ( فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) أي فإن توليتم وأعرضتم عن الطاعة ، فاعلموا أنما على رسولنا أن يبين لكم ديننا وشرعنا ، وقد بلغه وأبانه وقرن حكمه بأحكامه وعلينا نحن الحساب والعقاب وسترونه في إبانه ، كما قال : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) ( 13 : 40 ) وإنما الحساب لأجل الجزاء .

                          لم يؤكد تحريم شيء في القرآن مثل هذا التأكيد لا قريبا منه ، وحكمته شدة افتتان الناس بشرب الخمر ، وكذا الميسر ، وتأولهم كل ما يمكن تطرق الاحتمال إليه من أحكام الأديان التي تخالف أهواءهم ، كما أولت اليهود أحكام التوراة في تحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره ، وكما استحل بعض فساق المسلمين شرب بعض الخمور بتسميتها بغير اسمها ، إذ قالوا هذا نبيذ لا يسكر إلا الكثير منه ، وقد أحل ما دون القدر المسكر منه فلان وفلان يقولون ذلك فيما هو خمر لا حظ لهم من شربه إلا السكر .

                          بل تجرأ بعض غلاة الفساق على القول بأن هذه الآيات لا تدل على تحريم الخمر ، لأن الله قال : ( فاجتنبوه ) ولم يقل : حرمته فاتركوه ، وقال : ( فهل أنتم منتهون ) ولم يقل فانتهوا عنه ، وقال بعضهم : سألنا هل أنتم منتهون ؟ فقلنا : لا ، ثم سكت وسكتنا ويصدق على هؤلاء قوله تعالى : ( اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ) ( 7 : 51 ) ويمكن أن يقال : إن هذا الغلو قلما يصدر عمن كان صحيح الإيمان فما قاله تعالى أبلغ من تحريمه مما قالوا .

                          أما المؤمنون فقد قالوا انتهينا ربنا وقال بعضهم : انتهينا أكدوا الاستجابة والطاعة كما أكد عليهم التحريم ، وكان فيهم المدمنون للخمر من عهد الجاهلية حتى شق عليهم تحريمها ، [ ص: 56 ] فكان أشد من جميع التكاليف الشرعية ، وكانوا قد اجتهدوا في آية البقرة ، لأن الدلالة على التحريم فيها ظنية غير قطعية ، كما بيناه غير مرة ، فلما جاء الحق اليقين والتحريم الجازم انتهوا وأهرقوا جميع ما كان عندهم من الخمور في الشوارع والأزقة حتى ظل أثرها وريحها زمنا طويلا ، وقد قدح بعض أذكيائهم زناد الفكر عسى أن يهتدوا إلى شيء يجدون فيه بعض الرخصة من النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجدوا إلا أن من قد مات من أهل بدر وأحد ، كسيد الشهداء حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ماتوا وهم دائبون على شربها ، فلم تغن عنهم هذه الشبهة شيئا ، لأن الله لا يكلف الناس العمل بأحكام الشريعة قبل نزولها وهاك بعض ما ورد في ذلك زائدا على ما أوردنا من قبل :

                          روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : " قام رسول الله فقال : يا أهل المدينة ، إن الله يعرض عن الخمر تعريضا لا أدري لعله سينزل فيها أمر " أي قاطع ثم قام فقال : " يا أهل المدينة إن الله قد أنزل إلي تحريم الخمر ، فمن كتب منكم هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشربها " .

                          وأخرج مسلم وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، إن الله عرض بالخمر ، فمن كان عنده منها شيء فليبعه ولينتفع به ، فلم نلبث إلا يسيرا حتى قال : إن الله قد حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شيء فلا يشرب ولا يبع ، قال فاستقبل الناس بما كان عندهم منها فسفكوها في طرق المدينة .

                          وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الربيع قال : لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم يقدم في تحريم الخمر ، ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن ربكم يقرب في تحريم الخمر " ثم نزلت آية المائدة فحرمت الخمر عند ذلك .

                          وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : أول ما نزل من تحريم الخمر ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ) ( 2 : 219 ) الآية فقال بعض الناس : نشربها لمنافعها وقال آخرون : لا خير في شيء فيه إثم ثم نزلت : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ( 4 : 34 ) الآية ، فقال بعض الناس : نشربها ونجلس في بيوتنا ، وقال آخرون : لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر ) الآية ، فنهاهم فانتهوا ، وأخرج أيضا عن قتادة عن تفسير آية النساء أنه قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال حين نزلت هذه الآية : " إن الله قد [ ص: 57 ] تقرب في تحريم الخمر ، ثم حرمها بعد ذلك في سورة المائدة بعد غزوة الأحزاب وعلم أنها تسفه الأحلام وتجهد الأموال وتشغل عن ذكر الله وعن الصلاة " .

                          وروى أحمد عن أبي هريرة قال : " حرمت الخمر ثلاث مرات ، ثم ذكر نزول الآيات ، وما كان من شأن الناس عند كل واحدة منهن ، وقال في آية النساء : ثم أنزل الله آية أغلظ منها ، أي من آية البقرة ، وقال مثل ذلك في آية المائدة وبيانه أن الأولى تحريم ظني ، والثانية تحريم قطعي في معظم الأوقات ، والثالثة قطعي مستغرق لكل زمن " .

                          فهذه الأخبار والآثار وغيرها في التصريح بالقطع بتحريم الخمر تدل دلالة قاطعة على أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحبة كافة فهموا من آية المائدة أن الله تعالى حرم الخمر تحريما باتا لا هوادة فيه ، وأن الخمر عندهم كل شراب من شأنه أن يسكر شاربه ، وقد صرحوا فيها بلفظ التحريم ، وأنه كان تعريضا ، فجعلته آية المائدة تصريحا أو أن آيتي البقرة والنساء كانتا مقدمة لتحريمها أو مفيدتين له إفادة ظنية ، كما قلنا من قبل وأن جميع المؤمنين أهرقوا ما كان عندهم من الخمور عند نزول الآية ، وكان كلها أو أكثرها من خمر التمر والبسر الذي يكثر في المدينة ، وأنهم لم يجدوا لهم مخرجا من ذلك بتأول ولا رخصة .

                          نعم إنهم كانوا يسمون بعض الأنبذة بأسماء خاصة ، وقد سألوا عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما حكمها إذا صار يسكر كثيرها أو مطلقا ، قال أبو موسى الأشعري : " قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن : البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد ، والمزر ، وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم بخواتمه فقال : كل مسكر حرام " رواه أحمد والشيخان ، وفي حديث علي كرم الله وجهه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجعة " رواه داود والنسائي وغيرهما ، والجعة بكسر ففتح نبيذ الشعير وتسمى بالإفرنجية " بيرا " .

                          والأصل في النبيذ أن ينقع الشيء في الماء حتى ينضح ، فيشرب بعد يوم أو يومين أو ثلاثة ، ولم يقصد به أن يترك ليختمر ويصير سكرا كما تقدم ، ونزيد عليه أن النبي [ ص: 58 ] صلى الله عليه وسلم نهى عن النبذ في الأواني التي يسرع إليها الاختمار لعدم تأثير الهواء فيها كالحنتم ، أي جرار الفخار المطلية ، والنقير أي جذوع النخل المنقور ، والمزفت وهو المقير أي المطلي بالقار وهو الزفت ، والدباء ، وهو القرع الكبير ثم يبين أن الظروف لا تحل ولا تحرم ، وأذن بالنبذ في كل وعاء مع تحريم كل مسكر رواه مسلم وأصحاب السنن .

                          وعن ابن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق " رواه أحمد ومسلم ، أي يصير بعد ثلاثة أيام مظنة الإسكار ، فهذه نهاية المدة التي يحل فيها النبيذ غالبا وفي آخرها كان يحتاط النبي صلى الله عليه وسلم فلا يشربه ، بل ولا يسقيه الخادم أو يريقه لئلا يختمر ويشتد فيصير خمرا ، والعبرة بالإسكار وعدمه .

                          ( فائدة تتبعها قاعدة ) علم من الروايات التي أوردناها آنفا أن بعض الصحابة فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر فتركها ، ولكن عشاقها وجدوا منها مخرجا بالاجتهاد ، وكان من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذر المجتهدين في اجتهادهم ، وإن كان بعضهم مخطئا فيه ، وقد يجيزه له إذا كان قاصرا عليه " أجنب رجل فأخر الصلاة إذ لم يجد الماء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : أصبت " و " أجنب آخر فتيمم وصلى إذ لم يجد الماء فذكره له كالأول ، قال له ما قال للأول : أصبت " رواه النسائي ، وأجاز عمل عمرو بن العاص إذ تيمم للجنابة مع وجود الماء خوفا من البرد وصلى إماما ، فسأله عن ذلك فاحتج بقوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( 2 : 195 ) رواه أحمد والبخاري تعليقا وأبو داود والدارقطني ، ولكنه قال لمن ترك الصلاة مع الجماعة وسأله عن ذلك فاعتذر بالجنابة وفقد الماء : " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " رواه البخاري .

                          ويؤخذ من هذه الأحاديث ومن تلك أن التحريم الذي كلفه جميع الناس هو ما كان نصا صريحا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكلف الناس إراقة ما كان عندهم من الخمر إلا عندما نزلت آية المائدة الصريحة بذلك ، مع كونه فهم من آيتي البقرة والنساء تحريم الخمر بالتعريض ، والمراد من التعريض عين المراد من التصريح ، إلا أن التعريض حجة على من فهمه خاصة ، والتصريح حجة على المكلفين كافة ، ومن هنا تعرف سبب ما كان من تساهل السلف في المسائل الخلافية ، وعدم تضليل أحد منهم لمخالفه ، وتعلم أيضا أن ما قال العلماء بتحريمه اجتهادا منهم لا يعد شرعا يعامل الناس به ، وإنما يلتزمه من ظهر له صحة دليلهم من قياس أو استنباط من آية أو حديث دلالتها عليه غير صريحة ، وإن في تعريض كلام الله ورسوله حكما ، وسيأتي لهذا المبحث تتمة في تفسير : ( لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 )

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية