الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 59 ] ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ) ورد في عدة روايات تقدم بعضها أن بعض الصحابة استشكلوا عند نزول هذا التشديد في الخمر والميسر حال من مات من المؤمنين الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، ولا سيما من حضر منهم غزوتي بدر وأحد ، وكان أمر الخمر عندهم أهم ، ومنهم من كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وفي رواية أنهم سألوا عمن ماتوا وعن الغائبين الذين لم تبلغهم آية القطع بالتحريم ، وأن هذه الآية نزلت جوابا لهم ، وقيل : إن الآية نزلت فيمن كانوا يشددون على أنفسهم في الطيبات من الطعام والشراب ختما للسياق بما يتعلق بحال من بدئ بهم والروايات المأثورة على الأول .

                          الطعام ما يؤكل ، والطعم ( بالفتح ) ما يدرك بذوق الفم من حلاوة ومرارة وغيرهما يقال : طعم ( كعلم وغنم ) فلان بمعنى أكل الطعام وطعم الشيء يطعمه ذاق طعمه أو ذاقه فوجد طعمه منه ، استعمل في ذوق طعام الشيء من طعام وشراب يؤخذ قليل منه بمقدم الفم ، ومن الأول قوله تعالى : ( فإذا طعمتم فانتشروا ) ( 33 : 53 ) أي أكلتم ، ومن الثاني : ( فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ) ( 2 : 249 ) أي لم يذق طعم مائه .

                          قال الجوهري : الطعم بالفتح ما يؤديه الذوق ، يقال : طعمه مر أو حلو ، وقال طعم يطعم طعما ( بالضم ) فهو طاعم إذا أكل أو ذاق مثل غنم يغنم غنما فهو غانم فالطعم بالضم مصدر ، وأنشد ابن الأعرابي :


                          فأما بنو عامر بالنسار غداة لقونا فكانوا نعاما     نعاما بخطمة صعر الخدو
                          د ، لا تطعم الماء إلا صياما

                          شبههم بالنعام التي لا ترد الماء ولا تذوقه ، وصرح في لسان العرب بأن طعم بمعنى أكل الطعام ، وأنه إذا جعل بمعنى الذوق جاز فيما يؤكل ويشرب ، واستشهد المفسرون بقول الشاعر :


                          فإن شئت حرمت النساء سواكم     وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

                          .

                          النقاخ بالضم الماء البارد ، والبرد النوم ، قال الزمخشري : ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم ، ويقال : ما ذقت غماضا . اه .

                          وقال الآلوسي في تفسيره : وأما استعماله ( أي طعم الماء ) بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام ، كما في حديث : " زمزم طعام طعم وشفاء سقم " فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه ، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالدا القسري قال على منبر [ ص: 60 ] الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد : أطعموني ماء ، فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به ، وحملوه على شدة جزعه ، وقيل فيه :


                          بل المنابر من خوف ومن وهل     واستطعم الماء لما جد في الهرب
                          وألحن الناس كل الناس قاطبة     وكان يولع بالتشديق في الخطب

                          لأن ذلك إنما عيب عليه; لأنه صدر عن جزع ، فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح ، وإلا فوقع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه : اه .

                          أقول : أما الحديث فرواه ابن أبي شيبة والبزار بسند صحيح ، وهو على تشبيه مائها بالغذاء فليس مما نحن فيه ، وأما كلام خالد فهو لحن إلا أن يريد به أذيقوني طعم الماء مبالغة في طلب القليل منه أو إرادة ترطيب اللسان ، لأن الكلام يجفف الريق ، لا يقع مثله في كلام الفصحاء إلا بهذا المعنى ، فإذن لا يمكن أن يكون " طعم " في القرآن بمعنى الشرب مطلقا ، ولا يجوز أن يفيد هذا المعنى إلا بالتبع لمعنى الأكل تغليبا له ، فيجعل " طعموا " هنا بمعنى أكلوا الميسر وشربوا الخمر ، كتغليب الأكل في كل استعمال في مثل النهي عن أكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل ، ولم أر أحدا هدي إلى هذا الإيضاح بهذا التدقيق .

                          والجناح ما فيه مشقة أو مؤاخذة ، أنشد ابن الأعرابي :


                          ولاقيت من جمل وأسباب حبها     جناح الذي لاقيت من تربها قبل

                          .

                          وقال ابن حلزة :


                          أعلينا جناح كندة أن يغـ     نم غازيهم ومنا الجزاء

                          ويفسرونه غالبا بالإثم وهو ما فيه الضرر ، والضرر يكون دينيا ودنيويا ، ولم يستعمل في القرآن إلا في حيز النفي بمعنى رفع الحرج والمؤاخذة .

                          ومعنى الآي على رأي الجمهور : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) من الأحياء والميتين والشاهدين والغائبين ( جناح ) إثم ولا مؤاخذة ( فيما طعموا ) أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمها ولا في غير ذلك مما لم يكن محرما ثم حرم ( إذا ما اتقوا ) أي إذا هم اتقوا في ذلك العهد ما كان محرما عليهم ومنه الإسراف في الأكل والشرب من المباح ( وآمنوا ) بما كان قد نزله الله تعالى ( وعملوا الصالحات ) التي كانت قد شرعت ، كالصلاة والصوم والجهاد ( ثم اتقوا ) ما حرمه الله تعالى بعد ذلك عند العلم به ( وآمنوا ) بما نزل فيه وفي غيره كما قال : ( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) ( 9 : 124 ، 125 ) [ ص: 61 ] وكما قال : ( ويزداد الذين آمنوا إيمانا ) ( 74 : 31 ) وعملوا الصالحات التي هي من لوازم الإيمان ، ( ثم اتقوا ) أي ارتقوا عن ذلك فاتقوا الشبهات تورعا وابتعادا عن الحرام ، ( وأحسنوا ) أعمالهم الصالحات بأن أتوا بها على وجه الكمال ، وتمموا نقص فرائضها بنوافل الطاعات ( والله يحب المحسنين ) فلا يبقى في قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما صقال القلوب وزيتها الذي يمد نور الإيمان .

                          وطالما استشكل المفسرون اشتراط ما اشترطته الآية لنفي الجناح من التقوى المثلثة والإيمان المثنى والإحسان الموحد ، وطالما ضربوا في بيداء التأويل واستنباط الآراء ، وطالما رد بعضهم ما قاله الآخرون في ذلك ، وسبب ذلك اتفاقهم على أن الله تعالى لا يؤاخذ يوم القيامة أحدا بعمل عمله قبل تحريمه ، كما قال الله تعالى بعد ذكر محرمات النكاح : ( إلا ما قد سلف ) فقيل : إن ما ذكر ليس بشرط رفع الجناح ، بل لبيان حال من نزلت فيهم الآية ، أما تكرار التقوى فقيل : إنه لمجرد التأكيد أو للأزمنة الثلاثة ، أو لاختلاف من يتقى من الكفر والكبائر والصغائر أو من مطلق ومقيد ، أو بعضها للثبات والدوام .

                          وغفل هؤلاء عن معنى الشبهة التي وقعت لبعض الصحابة ونزلت الآية جوابا عنها ، وبيانها من وجهين :

                          ( أحدهما ) أن الله تعالى حرم الخمر والميسر في الآية الأولى من هذه الآيات ، وبين في الثانية علة التحريم من وجهين ، وهذه العلة لازمة لها ، فإذا لم تكن مطردة في العداوة والبغضاء ، فهي مطردة في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وناهيك بما ينقص من دين من صد عنهما ، وإنما كان الدين ومناط الجزاء في الآخرة ما يكون من تأثير الإيمان والعمل الصالح في تزكية النفس ، وإنارة القلب .

                          ( ثانيهما ) أن الله تعالى قد عرض بتحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة بما يبينه في سورة البقرة والنساء واللبيب تكفيه الإشارة فكان من لم يفطن لذلك مقصرا في اجتهاده وربما كان ذلك لإيثار الهوى أو الشهوة .

                          هذا وجه الشبه ، وتلخيص الجواب عنها : أن من صح إيمانه ، وصالح عمله ، وعمل في كل وقت بالنصوص القطعية المنزلة ، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده في الظنية ، واستقام على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان فلا يحول دون تزكية ذلك لنفسه ، وصقله لقلبه ، [ ص: 62 ] ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده ، وإن كان من الإثم ما حرم بعد لأجله .

                          ذلك بأن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لضرره في الجسم أو العقل أو الدين أو المال أو العرض ، والضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال ، وقد يتخلف أحيانا ، إذ يكفي التحريم أن يكون ضارا في الغالب ، فمن عمل عملا من شأنه الضرر في الجسم فربما ينجو من ضرره بقوة مزاجه إذا هو لم يسرف فيه ، ومن عمل عملا من شأنه نقص الدين وهو غير محرم عليه عالم بتحريمه فربما ينجو من سوء تأثيره الذاتي بقوة إيمانه ويقينه وكثرة أعماله الصالحة بحيث يكون ذلك الضرر كنقطة من القذر وقعت في البحر أو النهر ، ولكن قوة الإيمان ورسوخ الدين بالعمل الصالح ينافي الإقدام على ارتكاب المحرم ، إلا ما يكون من اللمم والهفوات التي لا يصر المؤمن عليها ، فالجناح العظيم والخطر الكبير من ارتكاب المعصية بعد العلم بتحريمها ليس فيما عساه يصيب مرتكبها من ضررها الذاتي التي حرمت لأجله فقط ، لأن هذا قد يتخلف أو يكون ضعيفا أو مغلوبا ، بل الجناح والخطر الديني في الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى ترجيح هوى النفس على مقتضى الإيمان والاعتقاد ، وهذا شيء قد حفظ الله منه من كانوا يشربون الخمر من أهل بدر وأحد ، بل حفظهم الله تعالى من ضرر الخمر الاجتماعي الدنيوي أيضا لأنهم لم يسرفوا فيها ولا سيما بعد نزول آية سورة النساء التي لم تبقي لهم إلا وقتا ضيقا لشربها ، والآية تدل على ذلك ، ويؤيده أن الله تعالى قد أنفس بين قلوبهم فكانوا بنعمته إخوانا ، بل كان ذلك شأن الصحابة عامة : كان يكاد الشقاق يقع بينهم كما مر في أسباب نزول الآيات ، ولكن لا يلبث أن يغلبه الإيمان ، فكانوا مصداقا لقوله تعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( 7 : 201 ) فالمعصية لا تفسد الروح إلا إذا كان فاعلها غير ميال بحرمة الشرع ، ولا يكون تأثيرها الذاتي قويا إلا بالإسراف فيها والإصرار عليها .

                          وقد سألني بعض الباحثين في علم الأخلاق وفلسفة الاجتماع من المصريين عن السبب في سوء تأثير الزنا في إفساد أخلاق فساق المصريين ، وإذلال أنفسهم وإضعاف بأسهم ، وعدم تأثيره في اليابانيين مثل هذا التأثير ، فأجبته على الفور : إن اليابانيين لا يدينون الله بحرمة الزنا كالمصريين ، فمعظم ضرره فيهم بدني ، وأقله اجتماعي ، ولكن ليس له ضرر روحي فيهم ، وأما المصريون فمعظم ضرره فيهم روحي ، لأنهم يقدمون على شيء يعتقدون دينا وعرفا بقبحه وفحشه ، فهم بذلك يوطنون أنفسهم على دنيئة الفحش ، [ ص: 63 ] والاتصاف بالقبح ، فلذلك كان من أسباب المهانة والفساد فيهم فأعجب بالجواب وأذعن له .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية