الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 74 ] نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشرب الخمر :

                          أما نبينا صلى الله عليه وسلم فلم يكن يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام كما صرحوا به في سيرته ، ولكنه كان يشرب النبيذ ، قبل تحريمها وبعده ، فإذا اشتبه في وصله إلى حد الإسكار لم يشرب منه كما تقدم ، وقد روى الحميدي عن أبي هريرة أن رجلا كان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر فأهداها إليه عاما وقد حرمت فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنها قد حرمت فقال الرجل : أفلا أبيعها ؟ فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها : قال : أفلا أكارم بها اليهود ؟ قال : إن الذي حرم شربها حرم أن يكارم بها اليهود ، قال : فكيف أصنع ؟ قال : شنها على البطحاء " وهذا حديث يدل على شربه لها ، على أنه لم يصح هكذا ، ولكن له أصلا في صحيح مسلم وسنن النسائي من حديث ابن عباس قال : " إن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله تعالى حرمها ؟ قال : لا ، فسار ( أي الرجل ) إنسانا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بما ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ، فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال ففتح المزاد حتى ذهب ما فيها " ومن العجيب أن صاحب المنتقى أورد حديث أبي هريرة وترك حديث ابن عباس الصحيح ، وأن الشوكاني لم يتكلم على سنده .

                          وما روي في المسند من شربه صلى الله عليه وسلم من نبيذ السقاية بمكة وهو ما يشرب منه الناس في الحرم ومن كونه شمه أولا ( وقيل ذاقه ) فقطب وأمر بأن يزاد فيه الماء فهو إن صح لا يدل على كونه كان مسكرا ولا على كونه شرب منه كان نسخا لتحريم كل مسكر ، كما يزعم بعض المفتونين بالنبيذ ، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت الرواية دالة على أنهم كانوا مصرين على شرب المسكر وعلى إسقائه للحجاج جهرا في الحرم وهذا زعم لم يقل به أحد ، بل هو منقوص بالروايات المتفق عليها ربما تواتر من أنهم تركوا بعد نزول آيات المائدة كل مسكر وإنما يفسر ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس إذ أذن لهم بالانتباذ في الأسقية ( أي قرب الجلد ) قال : " فإن اشتد فاكسروه بالماء فإن أعياكم فأهريقوه " وفي رواية ابن عباس أنهم سألوه ماذا يفعلون إذا اشتد في الأسقية فقال : " صبوا عليه الماء فسألوه ، فقال لهم في الثالثة أو الرابعة : أهريقوه . . . الحديث " رواه أبو داود ، وهو يفسر لنا أمره بكسر ما في سقاية الحجاج بالماء إذ شمه فعلم أنه بدا فيه التغير وقرب أن يصير خمرا ، وكما أنه لم يصح شربه صلى الله عليه وسلم من النبيذ المسكر لم يصح أيضا ما رواه الدارقطني وابن أبي شيبة من أن رجلا شرب من إداوة عمر فسكر ، فجلده وقال : جلدناك للسكر ، أي لا لمجرد الشرب . [ ص: 75 ] ويقول بعض النصارى : إن النبي صلى الله عليه وسلم شرب الخمر مع بحيرا الراهب وبعض الصحابة ، وأن بعض من سكر من الصحابة قتل الراهب بسيف النبي صلى الله عليه وسلم فكان ذلك سبب تحريم النبي صلى الله عليه وسلم للخمر وهذا قول مختلق لا أصل له البتة ، فلم يرو من طريق صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ، وبحيرا الراهب لم يجئ الحجاز ، وإنما روي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب وغيره من تجار مكة في بصرى بالشام ولما اختبر حاله علم أنه سيكون هو النبي الذي بشر به عيسى والأنبياء ( عليهم السلام ) وأوصى به عمه وحذره من اليهود أن يكيدوا له ، وكانت سن النبي صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة ، ولم يثبت أن بحيرا أدرك البعثة ، وليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حرم الخمر كما حرم صيد المدينة وخلاها : بل كان ذلك بوحي تدريجي كما تقدم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية